شعرت بحالة وجدانية مختلفة، عندما قررت أن أنضم إلى نداء الرئيس السيسي، فى دعوته لمؤسسات الدولة، بالاهتمام بالزراعة والمزارعين، فمصر هى مهد الزراعة، وظلت عبر تاريخها الطويل تملك أمهر وأشطر الفلاحين، وتملك أشهر وادٍ للزراعة المستقرة هو النيل. وهى أقدم حضارة زراعية عرفها الإنسان. بحكم المعرفة، فإنى أدرك أن من لا يستثمر فيما يملك لا يستطيع أن يملك ما يستثمر، وعندما حدثت المفاضلة بين الزراعة والصناعة والخدمات، وتمت هزيمة الزراعة، أدرك وجدانى الداخلي، أننا لن نتطور فى المجالين، الصناعى والخدمي، دون العودة إلى الجذور. وما نملك هو الفلاحة والفلاحين، ولأننى فلاح تربيت فى بيئة زراعية، فقد هزنى النداء الجديد، وشعرت بأننا فى حاجة إلى أن نجعله حقيقيا، ونتخلى عن الشعارات، ونتحلى بالجدية لإنقاذ الزراعة. وتطور الفلاحين هو إنقاذ لمصر. أتذكر فى الستينيات، عندما كنت أذهب إلى كتّاب القرية لحفظ القرآن الكريم، كان فى قريتنا جامعان فقط (الصغير والكبير)، ويوجد فى جامع أكثر من 35 من عمال الخدمة، كنت أسأل ألا يكفى واحد أو اثنان للجامع؟ فلماذا هم أكثر من30 شخصا، فعرفت أنهم جميعا كانوا جنودا مسرحين من الخدمة العسكرية بعد حرب اليمن، وأن الدولة كانت تخيّرهم بين أن يحصل الواحد منهم على 5 أفدنة من الإصلاح أو الوظيفة، فكانوا يختارون الوظيفة، لأن الوظيفة أفضل دخلا واستقرارا، والأفدنة الخمسة لا تدر دخلا كافيا، وليس فى القرية إلا الجمعية الزراعية والجامع، فتكدسوا فى الجوامع هربا من الفدادين الخمسة التى كانوا يتغنون بها فى الستينيات، بأنها حققت المساواة والعدالة والدخل المريح للفلاح. وفى السبعينيات عندما كبرت، وأصبحت أعمل مع أشقائي، كان أخى الأصغر يتابع مزرعة والدى بعد رحيله، بأن يجمع من رواتبنا أموالا لزراعة الأرض، فسألت أخى أليس من الأفضل أن يترك لنا الرواتب، وأن يزرع هو الأرض من عائدها؟ فكان رده قاطعا: إذا لم نزرع الأرض فسندخل السجن!! فإيراد الأرض لا يكفى لزراعتها!. فعرفت يومها عمليا أن مهنة الزراعة لا تكفى أهلها، رغم أنهم يعملون بأيديهم، فالحكومة تأخذ محاصيلهم إلى المدينة، ولا تدفع للمزارعين عائد العمل، فيستمرون فقراء، أو يهجرون الأرض، حتى رأيت بعينيّ الفلاحين، وهم يحرقون أراضيهم، أى مصدر أرزاقهم، عن طريق قمائن الطوب التى كانت تستنفد أخصب تربة زراعية، تكونت عبر آلاف السنين مع طمى النيل، وأنهم عندما لجأوا إلى هذا العمل الإجرامي، كانوا مدفوعين بحق الحياة، فزراعاتهم لا ثمن لها عند المستهلك أو الحكومة، وأنها تذهب للمدينة بأسعار بخسة، للحفاظ على الاستقرار أو الدعم الموهوم، على حساب الفلاح البسيط والفقير الذى كنا نغنى له فى التليفزيون، والغناء لا يكفى للحياة. أما فى الثمانينيات والتسعينيات، فقد ظلت الزراعة على هامش الحياة المصرية، حتى بدأ الاهتمام بزراعة الصحراء بالخضر والفاكهة، ولولا هذه الثورة فى زراعة الصحراء لجاعت مصر، وفقدت كل أصول الزراعة بالكامل، واعتمدت على الاستيراد لكل غذائها. الدعوة الجديدة تجعلنى أشدد على الاهتمام بالفلاح المنتج، وبالمزرعة، وبالقرية، فنحن نملك بنية أساسية عميقة الجذور، قيمتها تفوق التريليونين من الجنيهات، فلدينا أكثر من 6.5 ألف جمعية زراعية تعاونية منتشرة فى 4500 قرية، ولدينا بنوك القرية، وبنك التسليف الزراعى الذى تحول إلى تجاري، ويجب أن يعود ليخدم الزراعيين دون فوائد عالية أو تجارية، كما يحدث الآن، ولدينا محطات للبحوث الزراعية والإنتاج الحيواني، وتحتاج إلى تطوير، لتعمل على إعادة دراسة التركيب المحصولى فى كل المحافظات، وأن نختار المحاصيل والتوقيتات المناسبة لكل مناخ، ومنطقة، وأرض، وأن نكسب الفلاح مهارات جديدة،عبر التدريب المكثف، وأن يتم ربط السجادة الزراعية، وتنفيذها بدقة، بمعرفة وزارة الزراعة، على أن تتناسب مع العصر، وأن يتم ربط الإنتاج الحيوانى بالإنتاج الزراعي. لا يطلب أحد من الحكومة أن تكون منتجا، ويجب ألا تكون، لأنها غير قادرة عبر كل مؤسساتها على الإنتاج، إنما عليها توفير مستلزمات الإنتاج والبحث العلمي، وتقديم خدماتها للمنتجين، وهذا يكفى إذا أردت أن تتعلم من تجاربها الماضية، حتى تدعم الإنتاج، ولا تدعم الاستهلاك، بأن تضع خطة شاملة للزراعة الموسمية والسنوية وخطة التشجير، وتفتح الأبواب للمشروعات الصغيرة للقرويين، وتهتم الزراعة بتوفير الآلات الحديثة بالجمعيات، لتخفيض تكلفة الإنتاج، وتوفير العمالة المدربة، وتخطط لإعادة المجالس السلعية لكل سلعة، وكيف تلبى احتياجات الأسواق المحلية والتصدير، بتكلفة معقولة، تجعل المنتج المصرى قادرا على المنافسة محليا وخارجيا. والآن نحتاج إلى سرعة الاهتمام بالقرية والفلاح، وربط الزراعة بالمياه، فالتربة لم تعد مشكلة، فالمشكلة هى فى وجود المياه اللازمة للزراعة، ومصر الآن فى حاجة إلى تنظيم شامل للمياه، حتى لا تعطش الأرض والإنسان، والمياه الآن أغلى من الطاقة، ومواردنا منها شحيحة للغاية، وقد دخلنا حزام العطش المائي، مع نمو سكانى مخيف، وقدرتنا على تنظيم المياه بالسدود والقناطر والترع والقنوات تواجه تحديا جديدا، كيف نحافظ على المياه، ونزرع كل أرض مصر، مليون كيلو متر مربع، وهى صالحة للزراعة إذا توفرت المياه، ولا يصح أن تظل وزارتا الزراعة والرى عاجزتين عن إحداث هذا التحول الجوهرى فى الشتات المحصولى الذى تعانيه الرقعة الزراعية، أو نقص التكنولوجيا والمعدات التى تعانيه الزراعة المصرية، أو الإهدار الماء برى الغمر فى الريف. القضية متكاملة، إذا نجحنا فى الزراعة، ورفعنا إنتاجية الفدان، ونظمنا الري، وأسقطنا سبة استيراد غذائنا، فسيحدث تغيير شامل فى نمط الشخصية المصرية، وسنكون قد دخلنا فعلا، لا قولا ، عصرا جديدا، ولا نكتفى بمجرد بناء بنية أساسية، أقامتها الدولة عبر كل العصور بلا استغلال حقيقي، ونحن بالفعل دولة رائعة، وعلينا أن نكمل المسار، ولا نتوقف فى وسط الطريق. لمزيد من مقالات أسامة سرايا