تحاول هذه المقالات التى أقوم بكتابتها إبراز قيمة الثقافة خاصة فى مجتمع متحول ويتطلع إلى أن يجد له مكانا له التقدير بين المجتمعات المتحضرة التى نستقى منها أحيانا المعرفة والتنوير، خاصة أن لدينا حضارة عريقة تلقى إعجابا وتقديرا من هذه المجتمعات. ولكن للأسف مرت بنا ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية على عهود متعاقبة حالت بيننا وبين النهوض مرة أخرى لنصل الحاضر بالماضى رغم أنه لاحت أضواء التنوير مرة أخرى منذ بداية القرن العشرين حتى منتصفه على أيدى مجموعة من خيرة مثقفى مصر يجب أن نذكرهم دائما. وقبل أن نعرض فهمنا لموضوع الثقافة ونخوض فى أغوارها فإننا نبدأ لمقالتنا هذه لتكون بمنزلة مقدمة تمهيدية لهذا الموضوع الشديد الأهمية فى وقتنا الحاضر إذا كنا نريد لهذا البلد فى عهده الجديد أن ينهض النهضة الحقيقية التى نسعى جميعا إلى تحقيقها. يحاول كل إنسان أن يبنى مجتمعه وينتج ثقافته على النحو الخاص به فى أى زمان وفى أى مكان ويكتسب خصوصيته من محيط بيئته التى يعايشها ومحيطه العقلى ومنهجه فى الحوار والتعامل، ولذلك تتكاثر المجتمعات وتتنوع الثقافات على مدى الزمان فى إطار شروط الوجود. إننا قد نظن أن الحقيقة مطلقة فى الزمان والمكان، فهكذا تعلمنا ثقافتنا المعيشة مثلما تعلمنا أن الحقيقة مصدرها خارج الذات وأنها يقين مطلق، وليدة فعل وتفاعل وحوار بين الذوات المشتركة وتفاعلها مع الواقع ومع أنفسهم. ونغفل أن تعدد الواقع وتغير الزمان يعنيان تعدد الحوار وتغير مضمون هذا الحوار على مستوى المجتمعات زمانا ومكانا. ومع إيماننا بالتعدد فإننا نؤمن أيضا بأن هناك ما يجمع بين البشر.. إنها وحدة مع الاختلاف فى اطار الوحدة. فلا يعنى التنوع الثقافى التنافر الإنسانى المطلق. فإن التباين ليس عامل هدم بل هو دافع لوجود حركة قائمة على التفاعل فالحياة البشرية بطبيعتها متحورة. ومصطلح متحورة هو مصطلح فنى هدفه التعبير عن الطبيعة التحولية الدائمة للتجربة الإنسانية وهى الصفة الزمنية المؤقتة التى تدخل فى تكوين جميع المؤسسات والعلاقات الإنسانية. إن كل ثقافة لها قوتها السببية وطبيعتها المحافظة وتطبع بطبيعتها كل جيل وكل فرد بشرى مبدع. خاصة وأن أساسيات الثقافة أن يكون الإنسان على معرفة مناسبة بمختلف العلوم والفنون والمعارف حتى أجمع الكثير من العلماء والمفكرين وأصحاب النظريات على أن الثقافة بمعناها الذى يشمل الفن والأدب والسينما والمسرح تأخذ من كل ذلك وتشارك فى بناء نفسها، حيث هى أسلوب حياة أو نظام للقيم والمعتقدات تؤثر وتتأثر بوصفها ممارسة خلاقة، وهكذا يمكننا عبور الهوة الإبداعية بين هذين المعنيين. وبهذا المفهوم تصبح دراسة الثقافة النوع الأساسى فى الدراسات الثقافية وتغذية الابداع. وتعنى تغذية الإبداع إيجاد وسيلة لمساعدة الناس على البحث عن سبل جديدة أفضل للحياة والعمل معا. وقد يتسم خيالنا الاجتماعى والسياسى بالخمول والابتعاد تماما عن الطفرات التى يحققها خيالنا العلمى والتقنى، ولذلك لابد أن ندرك جميعا أن عمل الأفراد والإبداع هو المحرك الرئيسى للتطوير، خاصة التطوير فى مجال الاقتصاد. كما يجب أن ندرك جميعا أن ما يحث الأفراد على المعاناة الإيجابية والاختراع هو مناخ الحرية فهو الذى يلهم فى امكانات التحكم فى مصيرهم. إن الخضوع يجعل المجتمع عاطلا من المبدعين، والتمرد يجرف الطاقات بعيدا عن بذل أى جهد للبناء ويتحول إلى جهد سلبى من أجل المقاومة فقط والتدمير. إن الإبداع كقوة اجتماعية إيجابية كثيرا ما يتعرض للأسف للإهمال رغم قوته الفعالة ولذلك يجب على الدولة رعايته بكل الطرق المختلفة وتجند له أنبغ وأرقى وأنبل أفرادها الذين يعرفون الكثير وتبعد المدعين الذين لا يعلمون من هذه الأمور إلا ما يفسده حتى ولو كانوا فقط من أهل الثقة حتى يستطيع المبدعون أن يحققوا الهدف الذى ينشدونه من أجل رفعة هذه الدولة ونهوضها النهضة التى تسعى إليها. إن عناصر الثقافة ومكوناتها كلها أمور يكتسبها المرء بالتعليم ومن خلال عملية التنشئة الاجتماعية من المجتمع الذى يعيش فيه، ولذلك لا يدخل فيها ما هو غريزى أو فطرى أو موروث بيولوجيا من خاصية التراكم واكتسابه عن طريق التعلم، فيعتبر هذا من أهم ما يميز الثقافة باعتبارها حصيلة الفكر والمعرفة فى المجالين النظرى والعملى على السواء وهو ما نطلق عليه حصيلة الابتكار الجماعى. ولا يرتبط وجود الثقافة بالفرد من حيث هو فرد وإنما هى خارجة عنه وسابقة عليه، ولا تخضع لإرادته كما أن وجودها يتجاوز وجوده. ويتعداه فى الزمن. ولذلك فهناك ثقافة رفيعة نجدها فى أوائل القرن العشرين، حيث قام بصنعها مفكرون كما سبق أن ذكرناهم من خيرة من أنجبتهم مصر وكان لها أكبر الأثر فى بعض الأجيال التى أتت بعدهم ولكن الكثير منهم للأسف لم يحاولوا أن يستفيدوا ويستوعبوا ويطوروا. إن الأحداث والتحولات التى طرأت على مجتمع تقليدى مثل مجتمعنا هى مجرد أحداث وتحولات عرضية أو ظواهر مصاحبة للظروف السيئة ولا تعدو أن تكون تموجات على السطح الشاسع لبحر التراث والاستقرار والنزعة الثقافية المحافظة، وأن إدراك المثقف لما يحدث حوله من تحولات وتغيرات تجعل من واجبه أن يطوع مسار هذه التحولات والتغييرات لصالح الناس، فإن للديمقراطية معاييرها وقوتها، ولكن للأسف تحت اسم الديمقراطية ترتكب الكثير من الأخطاء. ولا تأتى الأخطاء إلا من التفكير العشوائى، ولذلك من أهم ما يجب أن يكون منهجا لتفكيرنا هو البعد عن العشوائية ومحاولة الوصول إلى التفكير السديد والاستفادة من التجارب السابقة وتقنين كل ذلك بشكل علمى حتى يصبح تقدمنا أشبه بالقانون العلمى. من الواضح أننا لن نستطيع أن نفعل شيئا طبيعيا فى محيط غير طبيعى، فنحن لن نستطيع أن نعمل عملا سويا إلا إذا توافر لنا الطعام السوى والمسكن السوى ثم تزويدنا أيضا بالآلات اللازمة وعندئذ نبدأ كلنا فى العمل. وبكلمة أخرى قبل أن نستطيع القيام بأداء شيء طبيعى يجب أولا أن نثبت النظام الطبيعى فى المجتمع، وهو ما نعنيه جميعا بالديمقراطية. فإن كل المحاولات للكلام عن أدب ديمقراطى وفن ديمقراطى تظل بلا قيمة إلا إذا كنا بالفعل ندرك معنى ما نقول ونثبت أننا قادرون على الممارسة دون خروج عنها مما يثير البلبلة والتشتت ولن يتحقق صواب ذلك إلا إذا آمنا بما هو فى صالح هذا المجتمع ونعمل على حمايته والوقوف دائما صفا واحدا والبعد عن الغوغائية واقتناص المكاسب الشخصية تحت اسم الديمقراطية. لمزيد من مقالات مصطفى محرم