تعيش أفغانستان أجواء ما بعد الانتخابات البرلمانية، النتائج لم تظهر بعد، الانتقادات والاتهامات بالفساد والتزوير شائعة لكن الأهم أن الانتخابات شهدت إقبالا رغم تهديدات طالبان والأعمال العنيفة التى حدثت فى أكثر من مدينة بغرض إلغاء الانتخابات أو إفشالها. لقد ذهب الأفغان الى أكثر من 80% من مراكز الاقتراع. النسبة الباقية تم تأجيل الانتخابات فيها الى وقت آخر. الحديث عن ما الذى تريده طالبان هو القضية السائدة ، ففى الإجابة قد يتم التوصل الى مخرج للسلام إن اتفق عليه وهو ما يبدو بعيدا فى الوقت الراهن. ولذا يظل التساؤل قائما ويظل البحث عن الوجهة التى تتجه إليها أفغانستان دافعا لعقد المؤتمرات والندوات. هكذا كانت القضية الأساسية التى دار حولها نقاش مستفيض ومن أكثر من زاوية فى الدورة السابعة لحوار هيرات الامنى والذى ينظمه معهد افغانستان للدراسات الاستراتيجية. حيث شارك ما يقرب من مائة وعشرين من المسئولين والباحثين والدبلوماسيين والاكاديميين، منهم ستون مشاركا من 20 دولة تمتد من استراليا الى الولاياتالمتحدة مرورا بدول أوروبا والشرق الأوسط ومصر كممثل للدول العربية. دار النقاش على مدى يومين وركز على محورين اساسيين، أولهما طبيعة الصراع الراهن فى افغانستان، والثانى كيف يمكن بناء السلام المستدام . وفى كلا المحورين تعددت الاتجاهات والافكار، ومع ذلك غلب عليها إعادة إنتاج افكار قديمة معروفة لاسيما البنية الأيديولوجية لحركة طالبان والدور الباكستانى والموقف الأمريكى وحالة الحكومة الأفغانية الراهنة. اتسمت بعض المداخلات بالعاطفة، فمن جاء من باكستان نفى أن يكون لبلاده دور فى تعطيل السلام أو مساندة طالبان لانهاك الحكومة الافغانية، ومن جاء من الهند نفى أن يكون الصراع مع باكستان سببا فى استمرار الصراع الافغاني. ومن الصين ظهر صوت يبشر بأن يكون لبكين دور مؤثر ومهم فى حل الصراع وفى بناء سلام مستدام. وقريبون من طالبان أكدوا أن الحركة ليست امتدادا لأحد، وان كل ما تؤمن به هو إقامة حكومة إسلامية ودستور اسلامى ولكن بعد أن تخرج كل القوات الأجنبية من البلاد. البحث عن امن مستدام يوفر للمواطن الافغانى حياة كريمة ومستحقة، ويراعى حقوقه الإنسانية غير القابلة للنقاش يفترض اولا تحديد طبيعة الصراع. هنا نجد مدخلين اساسيين، أولهما أننا أمام صراع سياسى وثانيهما أننا أمام صراع جيوبوليتيكي. الاول يعنى حصر الصراع بين الأطراف المحلية ومن ثم تركها تبحث عن السلام والتسويات التاريخية عبر جهودها الذاتية وعبر توازن القوى الخاص بها. حالة أفغانستان وموقعها الجغرافى وتاريخها بين الدول المجاورة وتشكيلة المجتمع وتعدده العربى يجعل مفهوم الصراع السياسى الذاتى أو المحلى مقصورا فى تفسير الحالة التى وصلت إليها افغانستان. ومن ثم يصبح مفهوم الصراع الجيو بوليتيكى الذى يعكس صراعات الحدود والنفوذ والموارد والهيمنة والتدخلات الخارجية هو الأكثر صحة فى بيان ماذا حدث وماذا يمكن أن يحدث وكيف يحدث. ومع ذلك طرحت افكار حول التحول من الصراع إلى التعاون من خلال إعلاء مبادئ الجغرافيا الاقتصادية، والبحث فى مشروعات تنموية إقليمية كبديل عن الصراع ومحاولات الهيمنة التى لن تحدث. وتبدو قضية التعاون المائى ذات أولوية لافغانستان، لاسيما فى ضوء ندرة مواردها المائية، وقيام كل من إيرانوباكستان بمشروعات مائية تؤثر سلبيا فى ما يتوافر لأفغانستان، لكن يظل الأمر بحاجة إلى إرادة سياسية جماعية يصعب توقع حدوثها. وفى المناقشات لم يحسم اى فريق التحليل الانسب، كما لم يحدث أن طور أحد آلية قابلة للتحقيق وهو ما عكس حجم التعقيدات التى تمر بها الأزمة الأفغانية. جزء من تلك التعقيدات يرجع إلى جمود نظرة أطراف محلية وإقليمية وعدم قدرتها على مراجعة الذات والبحث عن سبل تتلاءم مع مجمل الأوضاع التى يمر بها العالم والبيئة الإقليمية المحيطة بافغانستان نفسها. انها مشكلة النخبة السياسية والفكرية والدينية بامتياز. وجزء آخر يعود إلى التباين الشديد فى استراتيجيات الدول الأكثر تدخلا فى الشأن الأفغانى خاصة باكستانوالهندوالصين وروسيا. أما الجزء الأكبر فيرجع الى التغيرات الحادة التى تحدث فى السلوك الأمريكى تجاه القارة الآسيوية عامة وتجاه أفغانستان خاصة. فبينما تركز استراتيجية الرئيس ترامب على ما يعتبره الصعود الصينى الذى يهدد النفوذ الامريكي، واحتواء الصحوة الروسية عسكريا واستراتيجيا، اذا به يقوم بتخفيف الوجود العسكرى الأمريكى فى أفغانستان رغم موقعها الجغرافى المهم بين أقطاب آسيا الكبار، ويدعو إلى خصخصة الحرب، ثم أخيرا يسعى إلى حوار مع طالبان من أجل تسوية أو تهدئة أو إعادة هيكلة النظام السياسى الافغاني، لا احد يعرف تماما وجهة تلك السياسة الأمريكية ومن ثم ينعكس ذلك الغموض على خيارات اللاعبين الآخرين سواء من المحليين أو الاقليميين. وفى المحصلة يظل الارتباك سيد الموقف. الارتباك ايضا يسود رؤية طالبان التى تبدو عاجزة عن مراجعة سياستها ومواقفها طوال الأعوام العشرين الماضية. بعض القريبين منها يقولون إن قادتها ينقصهم النضج السياسى وينقصهم إدراك مناسب للتحولات الدولية والتطور التكنولوجي، كما أن انعزالهم عن العالم وارتباطهم المكثف بالبيئة المحلية يؤدى تلقائيا الى نوع من الانكماش على الذات وإعادة إنتاج نفس الأفكار التى ارتبطت بنشأة الحركة فى العام 1994. وكأن العالم لم يتغير منذ ذلك الوقت. كما أن إيمانهم بأنهم جنود الله فى الأرض وأن هدفهم الأسمى هو تطبيق الشريعة وفقا لإدراكهم الخاص لهذا التطبيق، يجعلهم يشعرون بأن دعوتهم غير قابلة للمساومة وبالتالى فلا مرونة فى اى مفاوضات ولا قبول للآخر وحقه فى الوجود وفى الاختيار المختلف. ومن المتفق عليه أن طالبان تختلف جزئيا عن أيديولوجية داعش. فبينما تتحدث طالبان عن دولة تحكمها الشريعة فى إطار محلى صرف، تدعو داعش الى دولة تقيم الخلافة الإسلامية وتناهض العالم بأسره. وفى هذه المقارنة يحذر البعض من أنها قد تؤدى إلى إبراء ذمة طالبان من العنف والاغتيالات التى تقوم بها لترهيب الأفغانيين وتعطيل مسيرتهم نحو تسوية شاملة ومستدامة، إذ تظهر طالبان باعتبارها اقل شرا من داعش وبالتالى إضفاء شرعية على افعالها التى لا يقبلها دين أو إنسانية. وهنا تكمن الخطورة الكبري. لمزيد من مقالات د. حسن أبوطالب