لا نحتاج الكثير من الكلام لنثبت أن العنف وفي قلبه العنف الأسري بات ظاهرة عامة لابد من مواجهتها بشكل مجتمعي كامل. علينا فقط مراقبة عدد حالات العنف الاسري التي وقعت في شهر سبتمبر 2018 لنعرف خطورة ما يحدث في مجتمعنا الذي عادة ما نصفه بأنه المجتمع المتدين المسالم المحافظ الذي يتصف ذكوره بالرجولة والشهامة والحرص على الاسرة. ستقودنا المتابعة الدقيقة لما يجري حولنا الى التعرف على الواقع كما هو وليس كما ندعي وجوده. كما سنلاحظ المسار العكسي الذي يتجه اليه هذا المجتمع في تناوله لكل مفرداته الاجتماعية. خلال شهر سبتمبر هذا الذي غادرنا حضرت ندوة عن دور الخطاب الديني في مواجهة العنف نظمه منتدى حوار الثقافات بالهيئة الانجيلية، وكان ضمن الحاضرين الاستاذ الدكتور أحمد زايد استاذ علم الاجتماع الشهير الذي هو من المتعلمين القلائل الذين لم ينفصلوا عن القرية التي ولد ونشأ فيها. قال الاستاذ الجامعي إنه يراقب التغير الحادث في قريته المنياوية في مجال زواج القاصرات. في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي استمر سن زواج الفتيات 18 عاما اما بعد ذلك والى الآن فقد انخفض السن الى 13 عاما مما يشير الى التراجع القيمي الحادث في المجتمع بالرغم من اصدار الدولة القوانين وإنشائها المؤسسات المتخصصة لمواجهة مثل هذه الظواهر التي تعرفها الاممالمتحدة على أنها عنف ضد المرأة، وهي كذلك، مهما برر البعض منا من اصحاب الفكر المتخلف. ولا يمكن انكار أن العنف كأحداث متكررة في المجتمع كان وظل موجودا في مجتمعنا كما في كل المجتمعات البشرية. تعرفت البشرية على العنف منذ قصتها مع هابيل وقابيل. واستمر يتخذ اشكاله المتعددة على طول التاريخ الانساني. ولكن الجديد الآن أنه بات يتخذ ظواهر شرسة متكررة في زمان تحاول فيه الانسانية اكتشاف طرق ووسائل الحداثة والتمدين والارتقاء بالقيم الاجتماعية العامة. وبتنا وكأننا نعيش فترة نراقب فيها حالة شد الانسان إلى الحداثة والتقدم التقني وفي ذات اللحظة نراقب عوامل اخرى تشده إلى قاع التخلف واللا إنسانية. وكأننا نعيش حالة ترتفع فيها الاصوات المنادية باليقظة والعمل وحالة اخرى تشتد فيها عمليات شد الانسان الى التغييب عن الواقع والاستمرار في الغيبوبة والتوهان اللذين يصوران له الجريمة والعنف الاسري كعملية سهلة الحدوث وكحل لكل مشكلاته. والحقيقة التي يجب أن نواجهها بكل شجاعة مجتمعية هي أن العنف في المجتمع المصري لم يعد وليد عامل اجتماعي واحد. فالذين يدعون، على سبيل المثال، ان الفقر يقف وراء العنف الأسري كأحد أسباب ظاهرة العنف العام في المجتمع المصري يخالفون الحقيقة لأن الاب الذي رمى بابنيه في النيل في شهر سبتمبر لم يكن فقيرا وانما كان يملك سيارة. كما ان مصر على طول تاريخها الحديث عانت من ظاهرة الفقر ووجود نسبة عالية من الفقراء ولكن وفي الوقت نفسه لم تكن ظاهرة العنف الأسري على هذه الدرجة من الشراسة ولا حتى كانت ظاهرة التحرش في الشوارع بهذا الانتشار والجرأة. كما ان الدراسة التي اجراها المجلس القومي للمرأة في دورته السابقة اشارت الى ان العنف يقع ويمارس في كل الطبقات الاجتماعية بلا استثناء. قديما كنا نراقب ونسجل ونستنكر حالات ضرب الزوجات والأطفال كما كنا نراقب معاكسات الفتيات في الطريق ولكن استمر العنف الاسري في اغلبه بعيدا عن سفك الدماء كما استمرت المعاكسات الشبابية بعيدة عن الالفاظ الحادة او الاحتكاك المتعمد المباشر. وفي النهاية قد يساعد الفقر على تأجيجه ولكنه ليس هو العامل الوحيد لانتشاره ولشراسته. ولكن بلا ادنى شك ان العنف وتحديدا العنف ضد المرأة والذي يتخذ اشكال الاغتصاب يأخذ ظاهرته الجماعية في حالات الحرب وبالتحديد كما كانت الحالة في انجولا إبان الحرب الاهلية والكونغو الآن أو في المخيمات التي تأوي اللاجئين العرب وغير العرب في كل مكان. وكأن ما يحدث من عنف بين البشر في المجتمعات يعكس شراسة عنف السياسة العامة في العلاقات الدولية. واذا كنا لا يمكن ان نرمي وجود العنف وشراسته على الفقر والنسب العالية للفقراء فحسب، فإننا لا نستطيع كذلك ان نلقي بأسبابه على شريحة عمرية بذاتها. فلا يمكن ان نلصقه بالشباب على سبيل المثال لأنه ، أي العنف يقع من البالغين المتزوجين وغير المتزوجين كما يقع من الشباب ومن الذكور كما من النساء وفي احيان كثيرة يقع في مؤسسات بلدان متقدمة تماما كما يحدث في مؤسسات دول متخلفة. فكلنا يتابع الآن حالة الفوران الثوري التي تمر بها الكنيسة الكاثوليكية بسبب اكتشاف استمرار حالات التعدي على الاطفال في صفوفها منذ عقود زمنية مضت. في حالتنا المصرية لا يمكن ان نسكت ونستكين الى حقيقة ان العنف بات ظاهرة عالمية ثم نركن الى ما ندعيه انه حقيقة. أو ندعي ان التغلب على الفقر وعبور الأزمة الاقتصادية سيساعدان تلقائيا الى تراجع هذه الظاهرة. بل لابد ان نأخذ الظاهرة بتنوعها وانتشارها وتردداتها وتسارعها بجدية بحيث يتم محاصرتها في حدود ضيقة وتحولها من ظاهرة مجتمعية الى حالات فردية يستنكرها الجميع. وأتصور ان مواجهة ظاهرة العنف هذه تحتاج منا إلى العمل على كل الجبهات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاعلامية وتحديدا تلك الجهة المعنية بمكافحة المخدرات وتنقية السوق منها. كما أتصور ان هذه المواجهة ليست مسئولية الحكومة فحسب ولكن لابد أن تمد الحكومة يدها داعية مؤسسات المجتمع المدني للمشاركة في تنسيق كامل معها وفقا لاستراتيجية متفق عليها من الجميع. في حالتنا هذه تتحدد مسئولية الحكومة في الحفاظ على القانون وتطبيقه بكل حزم ضد كل ممارس للعنف وإحكام السيطرة على أداء المؤسسات التي تتبعها بحيث تكون المثل للمنظمات الاخرى التي تتبع القطاع الخاص أو منظمات المجتمع المدني. لمزيد من مقالات أمينة شفيق