منير نعمة الله هو أحد أهم خبراء البيئة والتنمية فى مصر وعلى المستوى الدولى, وقد وجه لى دعوة كريمة لزيارة سيوة, التى تحتل مكانة خاصة فى قلبه وعقله, اختصها بمشاريعه التنموية ليعيد اكتشافها وتقديمها للعالم ولتصبح قبلة للسائحين والزوار من كل مكان, وقد ضمت الدعوة عددا كبيرا من السفراء الأجانب من أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا, وبحضور محافظ مطروح اللواء مجدى الغرابلى ووزيرى السياحة والآثار, رانيا المشاط وخالد عنانى, ومساعد وزير الخارجية أيمن مشرفة, إلى جانب نخبة محدودة من الكتاب والمثقفين. واحة سيوة كما تقع فى قلب الصحراء فهى أيضا فى قلب التاريخ, إذ اشتهرت عالميا بزيارة الإسكندر الأكبر لها بأكثر من ثلاثمائة عام قبل الميلاد, والذى قرر بعد تشييده مدينة الإسكندرية التوجه لمعبد آمون القائم بالواحة. كانت هذه هى المرة الأولى التى أزور فيها سيوة, فلم أكن قد تعرفت عليها إلا من خلال رائعة الروائى الكبير بهاء طاهر واحة الغروب وهى الرواية التى تحولت إلى عمل درامى تليفزيونى شديد التميز للمخرجة كاملة أبو ذكرى والنجمين خالد النبوى ومنة شلبى وكتبت له السيناريو مريم نعوم وهالة الزغندى, وقد أطلق طاهر عليها تلك التسمية لكونها تقع فى أقصى صحراء مصر الغربية وربما تكون آخر بقعة تغرب عنها الشمس, وهو ما يجعل للحظة الغروب فيها سحرا خاصا, والرواية تثير الكثير من التأملات وتطرح قضايا فلسفية كبرى حول العلاقة الجدلية بين الشرق والغرب, الحاضر والماضى, المدنية والحداثة والعقلانية فى مواجهة العادات والتقاليد الموروثة وأحيانا الخرافات والأساطير, وقد اختار كاتبها سيوة تحديدا لتكون مسرحا لأحداثها وللتعبير عن جميع تلك المتناقضات بحكم عوامل العزلة والفقر والجهل التى كانت تعانيها الواحة فى ماضيها, فزمن الرواية هو الربع الأخير من القرن ال19 فى فترة ما بعد هزيمة الثورة العرابية والتى أعقبها الاحتلال البريطانى لمصر 1882, و «المكان» هنا يبدو وكأنه بطل آخر من أبطال الرواية يؤثر على مصائر شخوصها ويترك بصمته القوية عليها, فالمكان يرتبط ارتباطا وثيقا بالبشر الذين يعيشون فيه, إن سلبيا أو إيجابيا, ولأنه فى الرواية كان بالغ القسوة فقد كان محركا قويا لمجريات أحداثها. لكن واحة سيوة اليوم تختلف عما كانت عليه فى ذلك الزمن, فالرحلة إليها فى ظل وسائل النقل الحديثة لم تعد تستغرق هذا الوقت الطويل والمخاطر التى كان يتحملها كل من يسافر إليها, لدرجة أنها كانت تُعد منفى لمن يقصدها أو عقابا لمن يخطئ فى عمله مثلما كان الوضع مع بطل واحة الغروب, من هنا تأتى أهمية النموذج التنموى الرائد الذى قدمه نعمة الله, فى الوقت الذى أحجم كثير من المستثمرين عن الاقتراب من الواحة خشية اقتحام الصحراء بكل ما تحمله هذه الكلمة من معوقات وتحديات, لكن العكس هو ما حدث مع النموذج الذى نتحدث عنه, حيث رأى صاحبه فيها جمالا طبيعيا, تصديقا لمقولة جمال حمدان حول عبقرية المكان, فسيوة التى لا تتعدى مساحتها 80 كم فى الجنوب الغربى لمرسى مطروح ولا يتجاوز عدد سكانها ال35 ألف نسمة, مليئة بالأماكن الأثرية من معبد آمون إلى مقابر جبل الموتى وتحوى كذلك العديد من البحيرات الكبرى والآبار والعيون, والعمارة فيها لها طابع تقليدى خاص جدا, والشىء نفسه ينطبق على منتجاتها الزراعية والحرف اليدوية التى تُعرف بها, لذلك أقام مشاريعه فيها فى وئام تام مع بيئتها المميزة, ولعل المنتجع السياحى, الذى أقمنا فيه ويسمى «ادرير اميلال» والذى يعنى باللغة الأمازيغية التى يتحدث بها أغلب السكان هناك «الجبل الأبيض», هو خير مثال على ذلك, فقد بُنى عند سفح هذا الجبل الذى يطل على بحيرة سيوة, وتم بناؤه بالمواد المحلية الأصلية اعتمادا على ما يطلق عليه حجر الكرشيف المكون من مزيج من الملح الصخرى والرمال والطين للجدران, أما الأسقف فهى من عروق النخيل, والأبواب والنوافذ من أخشاب النخيل وشجر الزيتون, والملاحظة المدهشة أنها بلا أقفال أو مفاتيح ومع ذلك يشعر الزائر بأمان كامل, كذلك لا يعمل الفندق بالكهرباء وإنما تُستخدم المصابيح والشموع للإضاءة, وهذه تجربة فريدة احتاجت ولا شك إلى جرأة كبيرة وإيمان عميق بالفكرة كى تُوضع موضع التنفيذ, أى إنه مكان يُعتبر حرفيا صديقا للبيئة, ومن ثم لم يكن غريبا أن يشكل أهل سيوة أكثر من 98% من العاملين فيه, كما جاءت باقى المشاريع مكملة لذات الفكرة والمبدأ, تعتمد على الزراعات الأصلية من تمر وزيتون فقط مع التطوير والتجويد وبالمثل كان التركيز على الصناعات والحرف اليدوية من منسوجات وسجاجيد ومنتجات الفخار وتلك المصنوعة من الملح الصخرى. والواقع أن هذه السمات, التى ترسم بدقة ملامح تلك المشاريع, ليست من قبيل الحديث فى التفاصيل وإنما لتوضيح ماذا يعنى بالضبط نموذج التنمية المستدامة, الذى يحترم العلاقة الوثيقة بين المكان وأهله, فتكون التنمية شاملة تعود بالفائدة على كليهما, وبالتالى هو نموذج يؤسس لنماذج أخرى يمكن تعميمها فى مناطق مختلفة من الجمهورية تبعا لخصائصها وميراثها الثقافى والتاريخى والميزات النسبية التى تتمتع بها مقارنة بغيرها, وقد يكون فيه أيضا إحياء لمدرسة المعمارى المصرى الشهير حسن فتحى, الذى عشق البيئة المحلية وجعلها منطلقا لأعماله الهندسية وأقام بيوتا كانت البساطة عنوانها, من الخامات الطبيعية لتتلاءم معها بعد أن أضاف إليها لمسات جمالية حفاظا على تراثها ليكون جسرا يربط الماضى بالحاضر, وبغض النظر عن الجدل الذى أثارته أفكاره ومشاريعه فى حينها من حيث القبول أو الرفض, إلا أنها ظلت أحد أهم نماذج علم الاجتماع العمرانى التى يُعتد بها بل وتلقى حماسا فى عالم اليوم وسط فيض الحداثة الذى يميزه. أخيرا, قد يرى البعض فى «ادرير اميلال» بسيوة مجرد مشروع لجذب السائحين, رغم أنه كذلك بالفعل, لكنه إلى جانب تلك الخاصية يحمل فلسفة معمارية وتنموية, فقد تختلف الأذواق والأهواء فيما يتعلق بعلاقة الأفراد بالأماكن وتفضيلاتهم واختياراتهم, ولكن تبقى المبادرة والجدية والتجربة المتفردة هى ما يستحق التوقف عنده. لمزيد من مقالات د. هالة مصطفى