اختتم مهرجان أنطاليا السينمائى دورته الخامسة والخمسين قبل أيام، لكن تظل علامات الاستفهام حول التغير الذى أصابه عالقة فى الأذهان ، وتبحث عن إجابة: لماذا غابت السينما التركية ؟ ومعها تقلص المعروض من الشرائط الأجنبية بصورة لافتة، ويبدو أنها عوقبت لشغب بعض صناعها، الذين لايكنون أى ود لرئيس جمهوريتهم. وبقى السؤال: ما الجدوى من استمراره طالما غاب عنه ما كان يميزه ألا وهو الاحتفاء بمسابقة هى أشبه بالأوسكار للفيلم التركي؟.
عوضا عن الإقصاء المتعمد ، التمس عشاق الفن السابع بعض العزاء لأنفسهم حينما شاهدوا عددا من الأفلام الرائعة التى لن يكون بمقدورهم مشاهدتها إلا عبر الفعاليات التى كانت حتى وقت قريب تسمى «البرتقالة الذهبية» عنوان مدينتهم الساحرة الساكنة بجبال طوروس المطلة على البحر المتوسط. كاتب هذه السطور كان على موعد مع مفاجأة لم يتوقعها، وتمثلت فى معايشة استغرقت قرابة ساعتين مع تلك الصياغة السينمائية الفريدة القادمة من كازاخستان وبدعم أوروبى ، غير أن مسرح أحداثها كان موسكو التى كانت تستعد للحدث الرياضى الأعظم كأس العالم 2018. هنا فى «البارديسيو» أى الجنة، عنوان القاعة ، عرض شريط آياكا ، لمخرجه سيرجى ديفورتسيفوى الذى شارك أيضا مع الأوكرانى الموهوب جيننادى أوستيروفسيكى فى كتابة النص المرئى ، فيه لم يكن هناك أى ملامح لفردوس عدن ، بل هو جحيم دانتي. هل يعقل أن تلك هى العاصمة الروسية ؟ وهل محطات المترو التى نراها وتشق أحشاءها بذلك الاكتظاظ المريع؟؟ نعم إنها هى ، والتعمد فى الإغراق برصد تفاصيل الدهاليز الموحشة المحيطة بشوارع يكسوها الضباب وتلال الثلوج ، لم يكن مرده الإساءة بقدر مطابقته لبشاعة مضمون الأحداث المأساوية التى تعيشها بطلة النص ذات الثامنة والعشرين عاما. إنها «آياكا» الكازاخستانية، وأدت الدور سامال ياسلايمأوفا Samal Yeslyamova وحصلت على جائزة أحسن ممثلة بمهرجان كان الأخير. هى واحدة من مئات وربما آلاف المهاجرين الباحثين عن طوق نجاة ، خمسة أيام هى زمن الفيلم الذى كانت موسيقاه آنات ولهاث بطلته ، التى لم يلتئم جسدها بعد من مخاض وضع، نتيجة اغتصاب لم يكن بمقدروها درؤه ، لكنها راحت تنزلق فى بحث تراجيدى عن عمل يدر عشرة آلاف روبل فقط ، مطلوب تسديدها لملاحقيها من مافيا تجار البشر. ظروف قاسية هى العبودية بعينها فى وضح النهار تنسجها منظومة فساد دولية بشركاء محللين وإقليميين ، لكن فى لحظة يناديها صراخ جنينها الجائع الذى قررت بيعه مقابل ديونها، وعندما التصق الرضيع بصدرها ، جاء الرضوخ لنداء الأمومة الأبدى ، فى تلك اللحظة لم يكن أمامها سوى أن تبكى فهناك من ينتظرها. على نقيض جمهوريات وسط آسيا الطاردة لأبنائها تقف طوكيو شامخة بقوتها الاقتصادية، ورغم هذا تبدو عائمة على جملة تناقضات حياتية ، صناع الفن السابع اليابانيون سبق وصاغوا العديد من الأعمال التى عكست بدورها المسكون فى أجواء الرخاء والرفاهية ، ولعلنا نتذكر عازف التشيللو فى أوركسترا فلهارمونى شهير الذى يضطر للبحث عن عمل بعد أن تم حل الاوركسترا وتسريح أعضائه لظروف مالية فلم يجد سوى وظيفة حانوتى ، وآخر محاسب مرموق فى ناطحة سحاب ذائعة الصيت لذات السبب يترك منصبه وينتهى به الحال عاملا فى مراحيض ، وهذه السنة تعود طوكيو بصياغة رائعة عنونتها «السارقون» لمخرجه هيروكازو كورى آدا. تحفة بصرية استحقت بجدارة نيل سعفة «كان» مايو الماضى ، لتفردها بسرد مفعم بالإثارة والغرابة فى آن ، فنحن أمام عائلة فى قلب التناقض الطبقى اختارت بمحض إرادتها استجابة لغياب العدالة بمفهومها الاجتماعي، أن تعيش خارج المنعوت بالقواعد العامة ، فى تمرد واضح لا يقبل الشك ، ولايعترف بالمنصوص والمتعارف عليهما والدليل على ذلك تشييدها أنظمتها القيمية الخاصة بها، وإحاطتها بمجال هادئ من البهجة حتى بعد انكشافها لايبدو أنها نادمة. إلى الضفة المقابلة حيث كولومبيا الرابضة فى أقصى شمال غرب القارة اللاتينية والموعودة بتلك العذابات الإنسانية التى لا مرفأ لها، وها هو «طيور المرور» لمخرجيه ثيروا جوريرا وكريستينا جياليجيو مثال حى على مسلسل من المآسى الدامية ، ملحمة فيها شغف لا حدود له للحياة وفى نفس الوقت شهوة للموت، إنه صراع الماريجوانا وعوالمها البائسة فى ظلمات أسطورية وعادات على تقاطعات الحدود المصطنعة تتنافر مع أنثروبولجيا معقدة من ثقافات وطقوس خرافية ، الطيور فيها محورها تجعلها أشبه بعبادات فيها تقام الصلوات، فى انتظار للرجاء الذى حتما هو قادم.