على مدى 45 عاما، لا يمر شهر أكتوبر من كل عام إلا ويلهمنا بمعنى النصر، لأن روح مصر المعاصرة صبغت، بل ولدت، بعد هذا النصر العظيم فى أكتوبر 1973ْ، فقد أصبحنا لا نخشى مرور الأزمات والمحن، فهزيمة 1967 علمتنا أن روح النصر تسكن فينا، قد نجزع بعض الوقت، لكننا نستفيق سريعا، ونعرف أننا قادرون على تجاوز أى محنة، ومصر تغيرت بعد تلك الحرب العظيمة، وقد سارت فى الطريق الصحيح، ورأينا ذلك فى العملية السلمية المعقدة التى سارت فيها بقوة، واستردت كامل أراضيها، وفى وقت كانت فيه المنطقة العربية، ولاتزال، تعيش حالة حرب تحت ظلال السلام، ومازالت مصر تعمل بنفس المنهج، حتى يتم تحرير كامل الأراضى العربية والفلسطينية. وبعد كل هذه السنوات نعيش، ونرى نصر أكتوبر. نراه فى مصر التى لا تقبل بالهزيمة الدائمة، ولا تتعايش معها، ولا تستكين وأى جزء من أراضيها، أو من حدودها، تحت الاحتلال، كما لا تسمح، لأى قوة إقليمية أو عالمية، بالتدخل فى شئونها الداخلية. ولذلك يظل نصر أكتوبر نصرا جديدا كل عام، بل يتجدد فى كل لحظة، ويتطور فى حياتنا وسياساتنا. نراه ونلمسه ونتعايش معه، وتجلى فى حرب السنوات الأخيرة التى انتصرنا فيها، تلك الحرب التى شنها الأعداء علينا، حتى نخرج من عصر الطاقة الجديدة، عصر الغاز الطبيعي، كمنتج ومصدر، عندما تآمر علينا أشقاء وجيران، لكى تدب الفوضى فى ربوع بلادنا، لنخرج من ميدان الغاز إلى الأبد، متصورين أنهم بذلك، ينفردون بالإنتاج والتصدير. نراه ونلمسه فى تحركنا الجاد لإنشاء مؤسسات، ومدن، وطرق جديدة، وحديثة، وفى حماية الدولة، واتساع رقعة الوطن. نراه ونحسه فى سرعة اجتثاث الإرهاب والتطرف، بكل أشكاله فى الداخل، وفى أرض الفيروز، وعلى حدود الوطن، فى عملية سيناء 2018 الباسلة. نراه فى شق قناة السويس الجديدة، وازدواج القناة القديمة فى سرعة البرق، وفى ظروف داخلية غير مواتية لأى إنجاز. نراه، وندركه فى تحرك الشعب والجيش لإنقاذ الوطن، من براثن التطرف والمافيا الدينية والإرهاب، بعد صعود اليمين المتطرف والإرهاب الذى صاحب فوضى الربيع العربى بعد 2011، وصعود إخوان الإرهاب المتأسلمين إلى سدة الحكم، وتصحيح تلك الأمور المعوجة، والكارثية، والخطيرة على مستقبل مصر، نراه فى 30 يونيو 2013. نراه فى تحرك مصر فى إفريقيا، وحول منابع النيل فى السودان وإثيوبيا، دبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا، بالعقل والحكمة، لحماية مواردنا المائية بعد أحداث الضعف المصري، وظهور سد النهضة فى إثيوبيا. نصر أكتوبر 1973 مازال قادراً على الإبهار، فهو لم يكشف عن جوانب كثيرة خفية، ولم تعلن بعد، رغم مرور 45 عاماً، ولكننا أصبحنا نعرف أنها أول معركة تكنولوجية حديثة وإلكترونية، يشهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية بكل أسلحتها، (برية وجوية وبحرية ودفاعا جويا ومخابراتيا)، وأن المصريين حققوا نصراً مؤزرا، على قوة عسكرية مدججة بأحدث التقنيات الإلكترونية، وبامتلاك الأسلحة المعقدة المصنفة فى ترسانة القوة العظمى الوحيدة فيما بعد الحرب الكبري، ووسط تجارب سرية، وأموال طائلة، وتحديث مخيف لكل الأسلحة وفروعها، فى معامل صرفت عليها مليارات، ومن عقول عملت على تكريس الهزيمة لشعوبنا بالكامل، فى حين أن شعوبنا ومجتمعاتنا كانت تحت حصار علمي، ولا تملك إلا أسلحة دفاعية، لا تصلح للهجوم! ولكن سر الانتصار لم يكن السلاح، بل كان المقاتل، والعقل المصرى الفذ، والإرادة المصممة على كسر الهزيمة، واسترداد الأرض والكرامة، فنحن لم ننتصر فقط، بل عرفنا، وعرف أعداؤنا، قدرتنا العسكرية المؤهلة للتعامل مع العالم المعاصر، بكل تكنولوجياته، وتقدمه العلمى التخصصى المذهل، أى أننا، وإن كنا جزءا من العالم القديم أو أصله، ولكننا بهذا النصر أصبحنا جزءا مؤثرا فى العالم الجديد البازغ، بأشكال متعددة، ومؤهلين للتعامل معه، بكل العقول، وبالمؤسسات العسكرية والمخابراتية، وفنونها المبتكرة. نحيى ذكرى النصر، ونحن نشعر بالزهو والفخر، ونجدد سعادتنا، واعتزازنا بجيشنا وعسكريتنا التى صنعت النصر، وحررت كامل الأراضى المصرية. ولكننا نشعر بالتقصير فى حق جنودنا، وأبطالنا الذين عبروا بنا من الهزيمة إلى الانتصار والعزة، فمازلنا لم نخلد النصر، أو نسجله، أو نوثقه، ونعيده حيا، للأجيال الحاضرة والقادمة التى لم تره، ولم تحسه، وتراه نصرا عاديا، فقد جرى فى ظروف لم يعرفوها، ولو عرفنا أن إسرائيل أصدرت أكثر من 60 فيلما عن تلك الحرب، لأدركنا أنها محاولة مستميتة لرفع الحالة المعنوية لمواطنيها، وإعادة تذكيرهم بحالتنا بعد 1967، لينسوا ما حدث بعد 1973، فى حين أننا اكتفينا بالنصر ولم نجسده بعد، باستخدام مختلف أنواع التجسيد التكنولوجى المعاصرة، (أقلاما وكتبا ووثائق مسموعة ومرئية ومكتوبة)، بل إن تقصيرنا وغيابنا عن إبراز النصر جعلنا نسمح، بوعى منا أو دون وعي، بتشويه الحرب، بإلقاء ظلال من الشك عليها، وعلى أبطالها الأفذاذ، فلم نخلدهم بما يكفي، ولم ننشر عن بطولاتهم، بل سمحنا للتناقضات التى تشمل الحياة المدنية، بأن تمتد إلى قادة العسكريين الذين صنعوا نصراً عسكريا فذا وأسطوريا، بل كان معجزة بكل المقاييس، لندخل بهم فى مقارنات، وحسابات، تنسينا البطولة، وتغيب عقلية المنتصرين عن القادة، أبطال أكتوبر: السادات وجنرالاته الكبار، أحمد إسماعيل، وحسنى مبارك، والجمسي، ومحمد على فهمي، وسعد الشاذلي، فلم يأخذوا حقوقهم، فى الحماية من التشويه المخطط والمدبر من الأعداء، حتى يغيبوا النصر عن وجداننا، وعن ضمير المجتمع، ولكم أن ترصدوا ما تعرض له كل القادة، بدءا من السادات، البطل فى الحرب والسلام الذى استشهد فى يوم نصره، بعد 8 سنوات، ليمر عليه اليوم 37 عاما، بطلا شهيدا خالداً فى ضميرنا، صانعا للحرب والسلام معا، فتح لنا ولأجيالنا وبلادنا أبواب الأمل، والاستقرار، والتطور، والحياة، وهكذا طالت عمليات التشويه كل القادة، ولم نفطن إلى أنها عملية خبيثة ومدبرة من أعدائنا، لكى يعيدوا هزيمتنا، وقد عرفوا أن التفكير فى النصر هو أحد سماتنا، أو ثمرة من ثمار روح أكتوبر المتجددة. كل عام وكل مصر بخير ومنتصرة بإذن الله، وبقوة شعبها، وترفرف عليها أرواح شهدائها وأبطالها، وروح النصر التى سكنت ضمير وقلوب المصريين إلى الأبد. لمزيد من مقالات أسامة سرايا