حين يعلن الرئيس الأمريكى ترامب أن بلاده تجاوزت أيديولوجية العولمة وباتت الآن المدافع الأول عن الدولة الوطنية، ومع سيادة الدول على شئونها وعلى قراراتها، وفى الآن نفسه يطالب ويضغط على كل الدول تقريبا بأن تنصاع مباشرة الى أوامره الشخصية، إما بخفض أسعار النفط ومسايرة العقوبات القاسية على إيران وإلا دفعت الثمن، ومن يدفع فستقوم الولاياتالمتحدة بالدفاع عنه، ومتجاهلا طبيعة الأزمات الدولية والإنسانية الكبرى التى تواجه الكرة الأرضية وكل من يعيشون فيها بسبب تغير المناخ، وترابط المجتمعات والأسواق رغم كل الاختلافات فيما بينها، ففى مثل هذه التوليفة من المبادئ والسلوكيات المتناقضة مع بعضها البعض، يحار المرء فى فهم ما الذى تريده إدارة ترامب بالفعل. الدور الأمريكى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فى شئون البشرية ومنظماتها ومعاهداتها الاقتصادية والسياسية كان قائدا بالمعنى الحقيقى للكلمة. ولذا حين أُطلق مصطلح العولمة قبل عقدين ونصف باعتبارها تعبيرا عن انتقال علاقات الدول والشعوب والمؤسسات والأسواق إلى حالة أكبر من التداخل والتشابك العضوي، انبرى البعض ليفسر الأمر باعتباره سياسة أمريكية جديدة تخفى بها نوازعها الإمبريالية فى استغلال الشعوب وفى إشاعة الأمركة كنمط حياة عولمي، وفى دفع الآخرين طواعية لفتح أسواقهم وحدودهم ومجتمعاتهم لكل أشكال النفوذ الأمريكى ثقافيا وفكريا وسلوكيا، ولعبت شركات تكنولوجيا الاتصالات والحواسب الآلية والبنوك الأمريكية الكبرى والماركات الشهيرة للسلع الأمريكية دورا كبيرا فى تبنى هذه المفاهيم باعتبارها السبيل الأمثل والأيسر والأكثر سلمية لجذب الجميع تحت مظلة النفوذ الأمريكى ومنظومة القيم الأمريكية. كثير من الذين اعترضوا على العولمة كحالة عالمية متعددة الأبعاد تصوروا أنها ستمس وتؤثر فقط فى الدول الأضعف والأصغر صاحبة الثقافات المحلية المحاصرة فى بيئاتها المحلية. وأن تأثيراتها تنساب من أعلى إلى أدني. لم يتصور كثيرون بمن فيهم الأمريكيون أنفسهم أن العولمة طريق له عدة مسارات متعاكسة ومتناقضة ومتشابكة إلى الحد الذى يسمح للكل أن يؤثر فى الكل. وحين يقف رئيس البلد الأكبر والأكثر قوة والذى أنشأ العولمة وأصر عليها ليعلن رفضه لها ومعتبرا أنها مناقضة للمصالح الأمريكية العليا ويجب التخلى عنها، فالأمر يثبت أن الأمركة ليست قدر هذا العالم، وأن أمريكا شأنها شأن الآخرين يمكن أن تُصاب بالمرض التى سعت إلى نشره. لم يعد العالم أحاديا كما كان من قبل، إنه عالم متعدد القوى والأقطاب ومتنوع المشارب. لقد اثبتت العولمة التى يرفضها الرئيس ترامب أنها صارت أسلوب حياة بكل ما فيه من تناقضات، وله مؤسساته التى تعبر عنه بكل مافيها أيضا من تشوهات. الأجدر أن يتضامن العالم فى تصحيح المسار وليس الانقلاب عليه جملة وتفصيلا. أمريكا لم تعد صاحبة النفوذ الأكبر فى التكنولوجيا المدنية والعسكرية، لديها بالفعل بعض مصادر التفوق، ولكن الآخرين أيضا لديهم مصادر تفوق فى المجالات نفسها. وفى كثير من الصناعات الأمريكية الكبرى هناك اعتماد متزايد على ما يصنعه الآخرون، ودون ذلك لن تكون هناك صناعة أمريكية أصلا. فطائرة بوينج المدنية الأمريكية الصنع التى يشتريها العالم تعتمد على موردين لقطع أساسية من 33 ألف شركة متنشرة حول العالم كله. فكيف يمكن لبوينج أن تتوقف عن التعامل مع هؤلاء. أندرويد نظام تشغيل الهواتف المحمولة، أيقونة جوجل عملاق المعلوماتية، تعتمد فى انتشار أندرويد على مئات الشركات الكبرى المصنعة للهواتف المحمولة عبر العالم، كما تعتمد على فرق عمل منتشرة فى العالم كله لتطوير أجزاء مهمة من إبداعاتها التقنية، فهل تستطيع جوجل وأندرويد أن تتوقف عن ذلك إرضاء للسيد ترامب. الكثير من الشركات الأمريكية العملاقة والبنوك الكبرى ذات السلاسل العالمية تحصل على أكثر من 50٪ من أرباحها نتيجة انتشارها فى بلدان العالم المختلفة، ومنهم من يحصل على ثلثى دخله من أسواق العالم المختلفة مستفيدا من العولمة التى يرفضها الآن السيد ترامب. أبل التى تصنع أجهزة الأيفون فى واحد من أكبر المصانع على مستوى العالم فى الصين، تحصل على 67٪ من إجمالى مبيعاتها من الهواتف والساعات الرقمية والأجهزة المساعددة مما تصنعه فى الصين. تكلفة صنع الهاتف فى الصين أقل من 300 دولار أمريكى ولكنها تبيعه بأكثر من 1200 دولار فى أسواق العالم المختلفة، وإن حاولت تصنيعه فى الداخل الأمريكى كما يرغب الرئيس ترامب، فسيرتفع سعر الجهاز الواحد إلى أكثر من ألفى دولار للمستهلك الأمريكي، وأكثر من ذلك للمستهلك الخارجي، فمن يجرؤ على فعل ذلك؟ هذه الأمثلة غيض من فيض، جميعها تنتهى الى نتيجة واحدة وهى أن العولمة التى صنعتها أمريكا استفادت منها، وإن كانت بعض الجوانب عادت على امريكا بنتائج سلبية كالعجز التجارى مثلا مع الصين الذى يصل إلى أكثر من 800 مليار دولار، فإنه نتيجة تقسيم العمل الذى فرضته أمريكا على نفسها، حين تصورت أنها العقل المبدع المبتكر، والآخرون هم الصناع. مثل هذه الصيغة وإن كانت بحاجة إلى معالجة للتخفيف من وطأتها على الاقتصاد الأمريكي، فلن يستقيم الأمر عبر العقوبات والعزلة والسياسات الحمائية. لقد أصابت السيدة تريزا ماى فى كلمتها فى الجمعية العام حين أكدت أن الحوار ووضع اللوائح المناسبة التى تنظم التجارة الدولية هى الأسلوب الامثل. الانعزالية ليست الحل، الشراكة مع العالم هى الحل. العولمة فرضت مفارقاتها، فالصين التى يحكمها حزب شيوعى تتطور أفكاره وممارساته شيئا فشيئا، هى التى تدافع الآن عن حرية التجارة وعن المنظمات الدولية التى تنظمها، رغم أنها ليست منشئة لهذه المؤسسات. مفارقات تقول إن العولمة التى أصبح لها مؤيدون عبر العالم كله، لن يقفوا مكتوفى الأيدى أمام الضغوط الأمريكية. من سيكسب فى النهاية هو الذى يستطيع أن يحشد وراءه أكبر عدد ممكن من الدول والمؤسسات. أمريكا ترامب لم تعد قادرة على ذلك الآن، إنها تفقد نفوذها وتعادى الكل، ولذا فسوف يقف أمامها الكل، إلى أن تنتهى حقبة ترامب ويأتى جمهورى آخر يؤمن بأن عظمة أمريكا تكمن فى الانفتاح وليس العزلة، وفى القيادة وليس الابتزاز، فى احترام المؤسسات الدولية وليس فى إهالة التراب عليها، وإعلاء المبادئ وليس الضرب بها عرض الحائط. لمزيد من مقالات د. حسن أبوطالب