كنت حاضرة إحدى فاعليات مكتبة الاسكندرية عندما وصلنا الخبر الحزين، خبر رحيل الدكتور جلال أمين الكاتب الاقتصادى الذى كتب فى القضايا الاقتصادية مزجا مع القضايا الاجتماعية ليقدم كتاباته للقارئ العادى غير المتخصص فى العلمين، الاقتصاد أو الاجتماع، بأسلوب سهل قابل للفهم والاستيعاب. وبجانب كتاباته كان أستاذا لعلم الاقتصاد فى الجامعة الأمريكية، ومن أستاذيته هذه حصد رصيدا هائلا من التلاميذ لمدرسته هذه، المدرسة الاقتصادية الممزوجة بالقضايا الاجتماعية، السهلة الممتنعة. وتشاء الظروف أن الجلسة التى كنت أحضرها فى مكتبة الاسكندرية ضمت استاذا عظيما من العراق وهو الدكتور دارم البصام الذى قدم لنا مداخلة قيمة حملت عنوان التكامل الاقتصادى بين دول المشرق والمغرب: الواقع وآفاق المستقبل. قدم الدكتور دارم البصام تجربته التى يزيد عمرها على الاربعين عاما فى العمل الاقتصادى العربى الذى أراد به، مع المجموعة المتخصصة التى شاركته، تقديم الحلول العملية لحل كل المشكلات الاقتصادية للعالم العربي. من خلال وضع استراتيجية للتعاون والتكامل الاقتصاديين العربيين. وكان شعار الاستراتيجية: الوحدة فى مواجهة التجزئة والاستقلال فى مواجهة التبعية والتنمية فى مواجهة التخلف. ومع شرحه للاستراتيجية التى بنيت على الخلاصة الفكرية الوطنية للمشاركين قدم لنا قائمة لبعض الذين شاركوه فى هذا العمل العظيم والجاد.. ذكر اسماء الدكتور اسماعيل صبرى عبد الله والدكتور ابراهيم سعد الدين والدكتور محمود عبد الفضيل والدكتور فؤاد مرسى والدكتور سمير أمين والدكتور رمزى زكى ودكتور عبد الباسط عبد المعطي.. وأسماء عربية عديدة من الذين قدموا لأوطانهم بكل اخلاص ما يرونه صائبا ولازما لتقدمها. واستمروا يقدمون بالرغم من كل ما نالوه من اضطهاد احيانا ومن إبعاد احيانا اخرى والاخطر من كل ذلك ما نالوه من تجاهل واهمال وعدم قبول لآرائهم ولا حتى مناقشتها معهم. ولا شك أنه فى صفوف هذا الجيل كان الدكتور جلال أمين الذى رحل بعد أيام معدودات من رحيل الدكتور سمير أمين تاركا لنا الساحة وقد خوت تماما من ابناء جيل من الاقتصاديين قدم الكثير وتحمل الكثير ولم تعترف به سلطاته السياسية لمجرد انهم لم يتعودوا على الخضوع والاستمرار فى القول، نعم. . نعم، بل تمسكوا بحقهم بأن يعلنوها عاليا باللا اذا ما رأوا اللا واجبة القول والتعبير. والغريب انهم لم بلقوا الانكار من سلطاتهم المحلية فحسب وانما استمرت الجامعة العربية ذاتها التى نظمتهم وجمعتهم ومولت اعمالهم وطبعتها وافتخرت بوجودها تضع اعمالهم هذه فى الادراج ولا يمكن التكهن بما آلت إليه هذه الاستراتيجية بعد أن تغير الأمناء العامون وبعد أن انتقلت الجامعة من تونس العاصمة إلى القاهرة. وكأن أوطاننا العربية لا تحترم العقول ولا تقبل الآخر المختلف ولا تتحمل أن يكون فى الساحة السياسية والاجتماعية اكثر من رأى واحد لابد للجميع الالتزام به. والمدهش فى القائمة التى قدمها وشكرها الدكتور دارم البصام، أنها تركتنا ورحلت الواحد بعد الآخر وجاء فى نهاية الترحال الدكتور سمير امين ثم الدكتور جلال امين. ونستطيع القول ان الدكتور جلال أمين كان من تلك المجموعة من المفكرين الذين امتلكوا الرؤية الموسوعية للأمور ومجرياتها. وتتبلور هذه السمة فى كتابه الشهير الذى احدث ضجة هائلة عند صدوره فى طبعته الاولى عن دار الشروق «ماذا حدث للمصريين» والذى رصد فيه المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التى حدثت للمصريين خلال الفترة من 1945 حتى عام 1995 من خلال رؤية عامة يغلفها إحساسه الوطنى الغامر. والذى يتابع سيرته الذاتية التى كتبها فى كتابه «ماذا علمتنى الحياة» وهى المذكرات الصريحة الشفافة التى اغضبت البعض من افراد اسرته يستطيع التعرف ببساطة على الاصول الفكرية التى حددت مسار الدكتور جلال امين السياسية العامة. فهو فى مذكراته يفتح صفحة علاقته البعثية فى الخمسينيات عندما كان طالبا وتحديدا مع ميشيل عفلق مفكر ومؤسس حزب البعث. ولكنه فى الواقع لا يغلق هذه الصفحة فى كتابه او حتى يأتى على ذكرها لاحقا. كل الذى نستنتجه انه كان راضيا ومؤيدا للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التى عاشها مع التجربة الناصرية فى ستينيات القرن الماضي. وهو الموقف الذى يفسر دائما دفاعه عن العدل الاجتماعى والتنمية الاقتصادية التى قادها جمال عبد الناصر طوال العقد الستينى من القرن الماضى. فعلى مدار اصداراته الثلاثين نجده باستمرار يناقش تلك القضايا التى يراها دائما محورية لتقدم مصر والمصريين وكذلك محورية للمنطقة العربية. ولكنه ركز بشدة على التنمية الاقتصادية التى تؤسس وتبنى بأموال المصريين وسواعدهم من اجل تحقيق طموحاتهم الوطنية ورخائهم الاجتماعي. اى بالتحديد على التنمية الاقتصادية المستقلة. مع نقده الدائم لخصائص العولمة كنظام اقتصادى عالمى لا يراعى حقوق الفقراء. رحل دكتور جلال امين كما رحلت قائمة الرجال الذين ذكرهم الدكتور دارم فى مداخلته فى لقاء مكتبة الاسكندرية. رحلوا بعد ان تركوا لنا ذخيرة علمية اقتصادية هائلة على المستوى بين القومى والقطري. وهى كتابات موثقة وموجودة فى مكتباتنا ولدى العديد من القراء الذين اهتموا ولا يزالون يهتمون بهذا التراث الفكري، ستستمر مثل كل الاجتهادات و الكتابات التى قدمها الكثيرون من المثقفين، وبالرغم من فاعليتها وصلاحيتها، فإنها بعيدة عن مناقشات صناع القرار العربى سواء كان ذلك اقليميا او قطريا. وبالتحديد ما كان يتناول فكرة التكامل والتقارب العربيين. وهى ظاهرة عربية واضحة المعالم نعرفها دائما على انها انفصال اصحاب الخبرة والرأى عن اصحاب مراكز اتخاذ القرار. واحيانا نطلق عليها ظاهرة الاستفادة من اهل الثقة والبعد كل البعد عن اصحاب الخبرة. وفى احيان دائمة نعرفها على انها حالة من افتقاد القرار السياسي. ولكنها فى كل الاحوال حالة عبر عنها كل من الراحلين سمير امين وجلال امين باحتياجنا للمشاركة السياسية. رحم الله هذا الجيل العظيم وعوضنا الله فيهم من شباب يستطيع تكملة المسيرة. لمزيد من مقالات أمينة شفيق