في سبتمبر يعود إلى الإسكندرية بعض جمالها القديم، لكن دون التقاليد الحضارية التي عاشت عليها قبل غزو تتار العشوائيات، بشرا ومباني، يهدأ بحرها ويستكن كائنا وديعا يميل إلى مداعبة هؤلاء العشاق الذين اعتادوا النزول إليه في هذا الوقت من السنة، كما لو أنه يعرفهم معرفة شخصية ويعد لهم استقبالا خاصا، تتخلص فيه شواطئه من نفايات تصرفات بدائية تُرك أصحابها على سجيتهم الأولي دون أن يعلمهم أو يوجههم أحد إلى أدبيات التعامل مع شاطئ عام، وتتخفف شوارع المدينة من كثافة بشرية حلت عليها ضيفا ثقيلا وإن أنعشت جيوب أهلها..لكن للأسف يظل سائقو الميكروباص على سلوكيات قبيحة، يغذيها إحساسهم العميق بأن القانون غائب أو يهملهم لأسباب خاصة. أين عروس البحر المتوسط التي بناها الخواجات الذين تمصروا وأحبوا مصر أكثر من أهلها، ونقلوا إليها بعضا من معارف الغرب وحضارته؟ لكن بعضا من مسحة هذا الجمال أوحى برحلة مفاجئة إلى مدينة رشيد، ورشيد لها حضور طاغ في وجدان المصريين وتاريخ مسطور بالمجد في كتب التاريخ، فهي المدينة التي أذلت العسكرية البريطانية في عز قوتها ومجدها، ودحرت رمزا من رموزها هو الجنرال إلكسندر ماكنزي فريزر، الذي قاد ما نعرفه تاريخيا باسم حملة فريزر، وحين أرسلتها الإمبراطورية إلى مصر غازية عقب خروج الحملة الفرنسية، كانت تحاول أن تتجنب مصير الفرنسيين، فكلفت بها قائدا حارب في نصف الكرة الأرضية تقريبا: جبل طارق والولايات المتحدة والفلاندرز ورأس الرجاء الصالح والهند وصقلية وإيطاليا والسويد والبرتغال وإسبانيا، لكن حاكم المدينة على بك السلانكي وقف لها بالمرصاد ولم يكن معه سوى 700 جندي والأهالي، فدحروها لتخرج من مصر، ويموت فريزر بعدها بعامين مريضا ب«حمى فالشيرين» وهي خليط من الملاريا والتيفوس. الطريق الدولي من الإسكندرية إلى رشيد قد يكون الأمتع بين كل الطرق المصرية، أشجار النخيل السامقة تحتضنه من كل جانب، تتدلي منها أسباط البلح الأصفر والأحمر في دلال، كأنها عيون من السماء، تضفي على العابرين راحة وسكينة وشعورا فائقا بأن الحياة حلوة كما غني لنا الرائع فريد الأطرش، ولا يهمنا هنا أن نفهمها، يكفينا أن نعيشها وهذه النخلات العماليق تحدق فينا كما لو أنها حارسة من جبال الأوليمب. لكن هذه المرة كان الزحام والفوضي عائقا عن الوصول إلى الطريق الدولي، اتوبيسات ونقل وميكروباصات وتوكتوك وسيارات خاصة ودراجات بخارية وعربات كارو، وجها لوجه في جميع الاتجاهات معا، فهربنا منها إلى شارع جانبي، ومنه إلى طريق ابوقير رشيد. الطريق البديل مأساة إنسانية، حفر ومطبات، لا تعرف هل هي من طبيعة الأرض أو أن الناس بذروها حتى تجبر السيارات العابرة على المشي الهزاز كأنها تتبخطر في دلال سقيم، و«المعدية» أشبه بحي سكنى مهمش، لا هي ريف ولا هي حضر، كائن مشوه من الريف والحضر مثل مئات المدن وآلاف القرى المصرية، التي تخلت الدولة فيها عن تنظيم حياة الناس بالقانون سكنا وبناء، فتصرف الناس بطريقتهم وحسب ثقافتهم ومصالحهم الضيقة التي لا يعرفون غيرها، فنمت العشوائيات كالهواء والماء في حياتنا..لكن صعب عليّ تلاميذ مدرسة على الطريق أمامها سوق سمك بكل ما يصدر عنه من روائح، يعيش عليها هؤلاء التلاميذ ما بين خمس وست ساعات يوميا، ما نوع الوجدان الذي يعيش بين هذه الروائح سنوات طويلة؟ قد يذكر بَعضُنَا رواية «العطر- قصة قاتل» لكاتبها الروائي الألماني شديد الموهبة باتريك زروسكند، التي ترجمت إلى أكثر من 46 لغة وبيع منها ما يقرب من 16 مليون نسخة، وهي تروي حياة إنسان (جان باتيست جرنوى) ولد من أم بائعة سمك في سوق باريس من أب مجهول، هي نفسها لا تعرفه، وباريس قبل الثورة الفرنسية كانت كريهة الروائح وتعم شوارعها القمامة بعيدا عن قصر شاتو دي فرساي الشهير الذي سكنه الملك لويس السادس عشر في بلدية فرساي، 25 كيلو مترا غرب وسط باريس، وبعيدا أيضا عن قصور الحاشية والأمراء والنبلاء. المهم فوجئت الأم بآلام الوضع وهي واقفة على عربة السمك في السوق، ولم يسعفها الوقت فوقعت على العربة وسقطت وسط الأسماك، وأنجبت ابنها في تلك البيئة وروائحها، وحاولت أن تتخلص منه كما تخلصت من ثلاثة أولاد سفاح قبله، فألقت به بين القمامة، لكنها ضبطت وأُعدمت، وعاش الولد منبوذا كأنه مصاب بلعنة، فنحن نتعرف على الأشياء من حولنا بأسمائها، أما هو فيتعرف على البشر وأعمالهم الخفية والعلنية والأشياء والحيوانات والأشجار من روائحها، وفي الوقت نفسه هو الإنسان الوحيد في العالم الذي بلا رائحة، أي ليس له اسم ولا كينونة حسب مفردات لغة الروائح الخاصة به والتي يتعرف بها على الكون من حوله، فمال إلى العنف والحقد مجردا من مفهومي الخير والشر ولا يحده أي وازع أخلاقي، وحين اشتد عوده وكبر صار يقتل الفتيات العذراوات ويصنع من جلودهن وشحومهن عطورا يتعطر بها لعله يكتسب رائحة تميزه. باختصار أن العنف ليس فعلا ماديا مؤذيا فقط، وإنما قد يكون مشهدا قبيحا ورائحة فاسدة وبيئة عطنة، ثم نسأل أنفسنا: من أين جاء كل هذا العنف في المجتمع المصري؟! انظروا حولكم جيدا لعلنا ندرك ان القبح هو أهم مصادر العنف قولا وفعلا في حياتنا. كان الله في عون هؤلاء التلاميذ الذين يمضون اغلب ساعات يومهم مع روائح سوق السمك! عبرنا «المعدية» وركبنا الطريق الدولي، ليعود الجمال رائقا منتشيا من حدائق النخيل الممتدة في الأفق بلا نهاية، ومن رحمها تتدلي أسباط البلح الزغلول الفاقع والأصفر اللامع في زهو ومرح، لأكثر من ثلاثين كيلومترا والمشهد المبهج يمسح من نفوسنا ما خطته الفوضي والارتباك وغياب الدولة عن إدارة حياة الناس.. رشيد مدينة مصرية قح، قد تكون أهدأ، أقل صخبا، كورنيشها اكثر جمالا ونظاما من مدن دلتاوية كثيرة على النيل، لكن الشوارع هي هي، معطوبة ومكسرة، الناس الطيبون يجيبون عليك بحب، أبواب المقاهي على مصراعيها من صباحية ربنا، دون أن تحتفل بالعيد القومي المرتبط بانتصارها على فريزر. انتهت الجولة وعدنا إلى الطريق الدولي لتهب علينا من حدائق النخيل نسمات منعشة، تقول لنا إن الحياة حلوة بالرغم مما نفعله بها!. لمزيد من مقالات نبيل عمر