يعيش العراق منذ عام 2003 تحديات عديدة وأزمات كثيرة, فما كاد يخرج من أزمة القضاء على تنظيم داعش الإرهابى الذى استولى على ثلث مساحة البلاد فى عام 2014, حتى دخل فى أزمة استفتاء كردستان ومحاولة الأكراد الاستقلال عن الدولة العراقية, وبعد أن تجاوز تلك الأزمة دخل فى أزمة الانتخابات التى أثارت جدلا كبيرا حول شرعيتها و تم تجاوزها بعد إعادة الفرز اليدوى للأوراق الانتخابية, حتى دخل فى أزمة سياسية حول تشكيل أركان الحكم الثلاثة, رئاسة الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان نتيجة لتصارع الكتل السياسية الفائزة فى الانتخابات, وتزامن مع ذلك كله تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتدنى الخدمات الأساسية عكستها احتجاجات البصرة والمدن العراقية وحرق مقات الأحزاب والقنصلية الإيرانية فى المدينة, نتيجة لنقص المياه النظيفة وانتشار الأمراض وتصاعد حدة البطالة, وغيرها من الأزمات التى جعلت العراق يدور فى حلقة مفرغة وغير قادر على تجاوز أزماته والوصول إلى مرحلة الاستقرار. ثمة ثلاثة عوامل أساسية تقف وراء الدوامة العراقية وتتمثل فى: أولا: منطق المحاصصة الطائفية الذى يحكم العملية السياسية منذ عام 2003 والذى يمثل صلب المشكلات فى البلاد, وأدى إلى فرز نخب سياسية تعلى من البعد الطائفى على البعد الوطنى, وساهمت فى إحداث شروخ كبيرة بين المكونات العراقية الرئيسية, الشيعة والسنة والأكراد, كما أنها هيأت المناخ أمام تصاعد النزعات الانفصالية من جانب الأكراد, وكذلك تصاعد خطر الإرهاب المتمثل فى تنظيم داعش الإرهابى. ثانيا: الفساد السياسى والإدارى سواء من جانب النخب السياسية المسيطرة على المشهد العراقى منذ الغزو الأمريكى, والتى اتخذت من المناصب السياسية وسيلة للكسب وتراكم الثروات, أو سواء داخل الجسد الإدارى للدولة وضياع مئات المليارات من الدولارات التى كانت مخصصة لعملية إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين والنازحين, وترتب على هذا الفساد أن اصبحت العملية السياسية مغنمة وليست مهمة وطنية لخدمة أبناء العراق, كما أنه أعاق عملية التنمية والإعمار وتحسين مستوى معيشة العراقيين, فى ظل بلد غنى بالثروات الطبيعية والبشرية, ووصل الأمر إلى صعوبة حصول المواطن العراقى على أبسط الخدمات الأساسية من مياه نظيفة وكهرباء وتعليم وغيرها, ولذلك لم تستوعب النخبة السياسية رسائل الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتى تمثلت فى عزوف المواطن عن المشاركة حيث تدنت لأدنى نسبة, كما اختار الناخبون التكتلات السياسية التى رفعت شعارات لا للطائفية ولا للفساد وتأكيد استقلال القرار العراقى, وتمثلت فى فوز كتلة سائرون التى يتزعمها مقتدى الصدر بالمرتبة الأولى فى الانتخابات, كذلك لم تستوعب النخبة رسائل احتجاجات البصرة, وانشغلت فى صراعاتها السياسية. ثالثا: الدور الإيرانى السلبى فى المعادلة العراقية, والذى كان سببا فى كثير من مشكلات العراق الحالية, فبعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق فى عهد إدارة أوباما تركت فراغا كبيرا فى الساحة العراقية سعت إيران لملئه وتقوية نفوذها وإدارتها للتفاعلات السياسية, حيث غذى الدور الإيرانى الاستقطاب السياسى والطائفى فى العراق, عبر بناء شبكة من التحالفات القوية مع الكثير من النخب والتيارات السياسية الشيعية, وتهميش مكونات العراق الأخرى, كما أن لعبت إيران دورا فى نمو نفوذ التنظيمات المسلحة كأذرعة عسكرية وسياسية لها وعلى رأسها فصائل الحشد الشعبى مثل عصائب أهل الحق وحركة النجباء ومنظمة بدر ولواء أبو العباس والفاطميون والزينبيون وغيرها من عشرات الميليشيات التى شكلت تحديا كبيرا لمفهوم الدولة الوطنية ووحدة السلاح فى يد المؤسسات الرسمية المتمثلة فى الجيش والشرطة العراقية. العراق الآن يقف فى مفترق طرق واضح, فالقضية ليست فى من هى الكتلة الأكبر فى البرلمان لتشكيل الحكومة, فسواء كان تحالف الإصلاح والإعمار الذى يقوده الصدر ويضم سائرون والنصر والحكمة والوطنية أو تحالف البناء الذى يقوده هادى العامرى ويضم الفتح ودولة القانون, فإن المعادلة السياسية ستظل على حالها وأسسها مع تغيرات فقط فى الاشخاص مما يعنى استمرار العراق فى دوامته. حتى يخرج العراق من عنق الزجاجة فإنه يحتاج إلى إعادة هيكلة العملية السياسية برمتها واستبدال منطق المحاصصة الطائفية بمبدأ المواطنة الذى يساوى بين جميع العراقيين فى الحقوق والواجبات بغض النظر عن اختلافاتهم الطائفية والعرقية واللغوية, فى إطار العراق الموحد والمزدهر الذى يتطلب تكاتف كل العراقيين فى العمل المشترك من أجل مواجهة تلك التحديات وتوظيف موارد العراق النفطية تجاه التنمية, كذلك تحقيق المصالحة الوطنية وإعادة اللحمة بين أبناء الشعب العراقى وإزالة الرواسب التى نتجت عن حرب داعش والاستقطابات الطائفية وتبعات الاستفتاء الكردى, وتشكيل حكومة تكنوقراط وطنية تعمل على إعادة ترتيب أولويات الفترة المقبلة وعلى رأسها تحقيق التنمية وإعادة الإعمار وإعادة اللاجئين, وتحسين الخدمات الأساسية للمواطن, كذلك نزع أسلحة الميليشيات وإنهاء الدور الإيرانى المزعزع للاستقرار وإعادة العراق إلى بيته العربى, ودون ذلك سيظل العراق يئن بين مطرقة أزماته الداخلية وصراعات النخب السياسية وسندان التدخلات الخارجية التى لا تستهدف مصلحة الشعب العراقى, وربما كانت احتجاجات البصرة جرس إنذار للنخب السياسية العراقية قبل أن ينجرف العراق إلى مستقبل مجهول. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد سيد أحمد