في فهم عمق الصحافة المصرية المعاصرة ستتوقف الأجيال القادمة أمام أسماء بعينها، كانت لها رؤية محددة، وكتابات دقيقة واضحة، وتحظى بموهبة بارزة، وصلت من خلالها إلى قارئها بوضوح لا لبس فيه، وكان خطابها الصحفي والإعلامي يتجاوز القدرة المهنية إلى ما يحقق مصلحة البلاد والمواطنين، ويصل به إلى عقولهم قبل مشاعرهم أو أرواحهم أو نفوسهم، وبمنطق كامل. فالقارئ، بصفة عامة، قد تهمه الموهبة والقدرة على الوصول إليه بشكل مستمر، لكنه يبحث دائما عما استفاد منه، وعما خرج به من رؤية، أو معلومة، يستعيدها في حياته وآرائه. وقد اخترت اليوم أن أتحدث عن الأستاذ إبراهيم سعدة ابن الصحافة المصرية البار، بكل طاقتها وروحها الوثابة، بحثا عن التجدد والحيوية، والمؤسس الثالث لصحافة (أخبار اليوم) بعد مؤسسيها مصطفى وعلى أمين، ثم نجمهما الساطع موسى صبري، إلى أن وصلت إلى يد إبراهيم سعدة الساحرة، فاستمرت في عطاء مثير للقارئ، ينعش العقل، ويداعب الروح، ويخلق القارئ، وينمي الأسواق. ونحن في (الأهرام) كنا دائما نحب المنافسين الأقوياء، ونشعر بهم، ونتجاوب معهم، لأن المهنة الصعبة علمتنا أن التنافس هو روح البقاء والتميز والاستمرارية، وخلق القارئ ضرورة وحيوية لمستقبل المهنة، وعندما تكون المنافسة والمنافسون أقوياء تقوى المهنة، وتظل على القمة. ولذلك ظلت صحافة (الأهرام) و(أخبار اليوم) يجمعهما تنافس، ومحبة، لا يعرفها إلا أبناء المهنة، قد يشعر القارئ بالمنافسة، لكنه لا يستطيع أن يسبر غور المشاعر التي تحكم هذه الروح، فمن ورائها قارئ نحبه ووطن نعشقه. وفى تلك الفترة أطلقت على الصحافة صحافة الإبراهيمين، (نافع و سعدة)، وإبراهيم سعدة ليس كاتبا فريدا فقط، لكنه من الآباء المؤسسين لوطنية مصرية، غابت بعض الوقت، ثم وجدت من يعيدها، ويحييها في الضمير الوطني من جديد. فنحن من جيل عاش سنوات طويلة، يهتف في الشارع، والمدرسة، تحيا (الجمهورية العربية المتحدة)، وكان اسم مصر غالبا غائبا أو مختفيا، فالروح القومية العالية أثرت، فأخفت الروح الوطنية بعض الوقت، إلى أن تحقق النصر للمصريين تحت رايات جمهورية مصر العربية بروحها الوطنية والعربية بعد1973. وهذا الجيل الذي حمل اسم مصر من جديد إلى الشارع كان مقتنعا بأن المصرية لا تلغى (العربية)، ولكنهما يجتمعان، وكان سعدة في طليعة إحياء الروح المصرية فى الوجدان من جديد، بعيدا عن أي أيديولوجية وعصبية أو شللية سياسية، فظل محبوبا من كل المدارس المهنية، وبالرغم من أنه كان يعمل بالسياسة والترجمة، فإنه كان بعيدا عن التحزب والمتحزبين الذين كانوا يبنون شللا وأحزابا، ولذلك لم يجد من يدافع عنه عندما وقع في بعض المشكلات المهنية، سواء من الذين كانوا يخافون قلمه، أم من الذين يخشون شجاعته المهنية التي لا ينكرها أحد من جيله، وحتى الآن، فقد سجل اسمه فى قائمة أبناء المهنة الخالدين المجددين، وكذلك الشجعان والمهرة فى أسلوبهم وقدرتهم على شحذ العقول وشحن النفوس، وتلك أبرع قدرات الصحفي المبدع والخلاق. أتذكر إبراهيم سعدة الذي عاد إلى وطنه الذي أحبه وعشقه كثيرا، ورفض أن يعمل بعيدا عنه في أي صحيفة أخرى، رغم العروض المغرية التي انهالت عليه عبر مساره وتاريخه المهني والصحفي العريض. وأتمنى وأدعو له بأن يعود إلى قلمه في داره (أخبار اليوم)، وعموده (آخر عمود) ليتحقق له عشقه، وما عاش من أجله، وما حلم به. وصحافتنا اليوم تحتاج إلى تضافر عقول وقلوب شيوخها مع حيوية شبابها وأجيالها المتتابعة حتى تعيد القارئ، والحيوية إلى شارع الصحافة الذي لا أتوقع له البوار أبدا، قد يمرض بعض الوقت، لكنه سرعان ما يتعافى ويعود إلى حيويته الوثابة التي لا تتوقف أبدا. وأتذكر إبراهيم سعدة بقلمه وكتاباته وأسلوبه السهل الممتنع، والفكرة البراقة التى تخطف العقل، ولا تشعر القارئ بأي ملل على الإطلاق، وأعرف أن تلك الأقلام الساحرة المبدعة هي التي بنت تاريخ تلك المهنة العريقة في مصر، وكان لغيابها تأثير عميق على مجريات كثيرة، وفي نواحٍ عديدة، أثرت إلى جوار غيرها من العوامل في إضعاف القدرات الناعمة لوطننا. وأتذكر تجربتي معه عندما أنشئت جريدة مايو، وهى جريدة حزبية، وجمع بينها وبين (أخبار اليوم)، لكنه جعل التجربة الحزبية تجربة للوطن، وليس الحزب، فكانت فريدة من نوعها في بداية الثمانينيات، وجمع لها فريقا من (أخبار اليوم) و(الأهرام)، وطالبهما بالعمل بالروح الوطنية المصرية. وكانت تلقى دعم ومحبة الرئيس السادات الذي كان يصحبنا سعدة إليه مرة كل شهر، ليتحدث إلينا ساعات طويلة عن رؤيته للصحافة، ومستقبل الوطن، واكتسبت الصحيفة في ذلك الوقت قوة في الرأي العام، لم تحصل عليها أي صحيفة حزبية في تاريخ الصحافة على الإطلاق، وتلك كانت تجربة مهنية تحتاج إلى إعادة كتابتها من جديد، لنعرف كيف أن محتوى الصحيفة ورؤيتها المستقبلية وقدرتها على التعبير عن الناس هي العامل الحاسم في جذب القارئ أو هروبه. الأستاذ إبراهيم سعدة قصة فريدة في عالم الصحافة، تحتاج إلى من يكتبها ويسجلها للأجيال القادمة، هو وجيل المؤسسين أو البنائين للمؤسسات والوطنية المصرية الرائعة والخلاقة، بعيدا عن روح الصراعات المهنية الرخيصة، أو التهافت الصغير على الظهور غير المبرر أو الفج، أو الاتهامات الرخيصة التي لا تصمد أمام حقائق مسطرة ومكتوبة على صفحات صحيفة لا تطمرها الألعاب الصغيرة، أو المتهافتة، سنرجع لها حتما في مقبل الأيام، لأن تاريخنا المهني ضرورة حياة لمستقبل مهنتنا، فالصحافة ضمير الوطن، والصحافة الحية والصادقة لا تموت، ولا تختفى. لمزيد من مقالات أسامة سرايا