يروى أن تلميذا فرنسيا فى التاسعة من عمره تلقى إهانة من زميلة له فتقدم منه تلميذ آخر قائلا: أضربها حتى لا تكرر ما فعلته, فأجابه التلميذ المهان: لا، لن اضربها، انا لا اضرب الفتيات. لأنى رجل. هذا التلميذ الصغير الذى عبر عن رفضه الضرب هو ناتج مجتمع وليس حالة فردية تنشأ فى بلد، إنه ناتج بيئة ثقافية عامة اتخذت منذ زمان مسيرة مناهضة للعنف ورفضه كأسلوب تعامل يومى بين المواطنين. اعترف هذا المجتمع بالتعددية واحترام الآخر بغض النظر عن عرقه ودينه ونوعه الاجتماعي، لذا كبر أطفاله وشبابه ورجاله على احترام الآخر المختلف وخاصة المرأة وتعامل معها كمواطنة لها ارادة مستقلة ورأى خاص ومساحة مكانية خاصة بها لابد ان تحترم. تم ذلك فى اجراء مخطط وسياسة مجتمعية متفق عليها لعبت فيهما كل مؤسسات التربية الثقافية والتنشئة الاجتماعية لأدوارها المتعددة، المؤسسات التعليمية والإعلامية والفنية والرياضية. ولا يعنى ذلك ان هذا المجتمع يخلو من حوادث للعنف المنزلى، ولكنه يستمر عنفا يستنكره الجميع ويقع فى المجتمع كأحداث فردية يتم نبذها من الجميع. والاهم من كل ذلك ان هذا المجتمع اكتشف هذا العنف كظاهرة واعترف بوقوعه وقرر مناهضته. وهو ما لم نصل إليه فى مجتمعنا بالرغم من ان دولا عربية مجاورة شقيقة اعترفت به وباتت تناهضه بهدوء وتحقق نجاحات تلمسها حكومته، فى بلادنا نتناول العنف ضد المرأة موسميا خاصة فى الاعياد على سبيل المثال ونتعامل معه على انه التحرش بها قولا او لمسا، سواء كان فى جماعات اوبشكل منفرد فى الطريق. بالرغم من ان التحرش الذى نتحدث عنه ونتعامل معه لا يعنى الا عنصرا واحدا من عناصر العنف المنزلى الذى هو موجود فى حياتنا طالما كنا مجموعة بشرية عادية كما هى الحالة مع كل المجموعات الانسانية الاخرى التى لم تتقدم بجدية بعد، خطوة تجاه مناهضة العنف بشكل عام والعنف المنزلى بشكل خاص. فالحقيقة التى لابد الاعتراف بها هى ان العنف يعشش فى مجتمعنا ومن هذا العنف نلاحظ العنف الاسرى ومن هذا الاخير نتعرف على التحرش. فالتحرش فى النهاية هو القشرة الظاهرة لتلك الحالة المجتمعية المزروعة فى مجتمعنا المصري. فى بلادنا نلاحظ حالة العنف هذه فى ممارساتنا اليومية. نشكو منها ومن نتائجها. وأكاد أؤكد أننا جميعا نعرف حالاته ومواقعه كما أؤكد اننا ندير وجهنا بعيدا عنه وننكر وجوده كظاهرة عامة موجودة بحجة اننا ننتمى الى مجتمع نقى ثم محافظ ومن العار ان نعلن عوراتنا او مشكلاتنا التى تقع فى الخفاء خوفا من الفضيحة المجتمعية العامة. أتذكر جيدا انى شخصيا لم أكن أعرف عمق هذه الحالة الخطيرة الى ان انخرطت فى عمل بحثى قام به المجلس القومى للمرأة عام 2009. حينها كون المجلس القومى للمرأة فريقا للعمل ضم باحثات اجتماعيات لهن معرفة وعلاقات بأقاليم مصر وإعلاميات وإعلاميين وقانونيات. كما دعا عدد من مؤلفى الدراما المصرية، وفى مقدمتهم الراحل محفوظ عبد الرحمن لدراسة دور الدراما المصرية فى المساهمة فى مناهضة هذه الظاهرة.. وكان هدف المجلس حينذاك هو بداية التعرف على مشكلة العنف ضد المرأة وخاصة بعد إصدار الاممالمتحدة اعلانها الخاص بمناهضة كل اشكال العنف ضد المرأة، وضرورة ان تلتزم الدولة المصرية به نصا وفعلا. وأجرى المجلس البحث فى اطار امكاناته المادية المتاحة وكنت من الاعلاميين الذين درسوا الجانب الاعلامى منه. بعد اجراء البحث غيرنا الكثير من افكارنا. على الاقل كنا جميعا نعلم بوجود عنف ولكن ليس بهذا العمق. ثم عقد المجلس عددا من اللقاءات التى طرحت فيها نتائج البحث التى صدمت الجميع بعد ان كانت قد صدمت القائمين على البحث ذاته. إن العنف فى المجتمع المصرى ظاهرة عامة وليست حالات فردية او حالات تخص المرأة وحدها او الاطفال بمفردهم. انما هو ظاهرة مجتمعية يتم تدويرها باستمرار فالغنى يمارس عنفه على الفقير والقوى على الضعيف وصاحب المركز الاعلى على الجالس فى الموقع الادنى والرجل على المرأة والمرأة على الطفل. وحتى فى صفوف الاطفال فالتلميذ القوى فى المدرسة يحاول ممارسة سلطته بعنف على التلميذ الاقل منه قوة. ولكننا نلاحظه على النساء والاطفال اكثر من غيرهم من الشرائح السنية او الوضع الاجتماعى، لأن المرأة والأطفال يمثلون حلقتين ضعيفتين فى المجتمع. والعنف كان موجودا فى المجتمع المصرى قديما وقديما جدا ولكنه لم يكن قد تحول الى ظاهرة عامة بحجمها الحالى ولا بتنوعها الحادث. وقد ارتبط فى العقود الاخيرة بالتغير القيمى الذى حدث منذ سبعينيات القرن الماضى واثر على الاسرة وعلى المجتمع وعلى الفرد. وقد اثر هذا التغير القيمى على نوعية الثقافة والفن فى بلادنا مما جعلهما يتراجعان امام افكار وتصرفات تحط من العمل ومن المرأة. وقد ازدادت ملاحظتنا له لان المجتمع بات اكثر انفتاحا على الملاحظة والقول عما قبل. اصبح المجتمع اكثر انفتاحا مع نفسه ولكن ليس للدرجة التى تساعده على مواجهة اخطائه علنا.. ان العنف موجود فى كل الطبقات الاجتماعية وفى كل الاماكن وليس صحيحا انه مرتبط بالفقر او التعليم او بانحدار المستوى الاجتماعي. الفارق بين مستوى وآخر، ان الاغنياء والمتعلمين يملكون القدرة الاكبر على الاخفاء والانكار. ان ظاهرة العنف فى المجتمع تضم كل، نعم كل، أشكال العنف التى نعرفها ونعلن عنها وتلك الاخرى التى نتعمد عدم ذكرها. نحن مجتمع يخفى الكثير والكثير من اخطائه ويتركها لتكبر ولتصبح فى حالة يصعب حلها وعلاجها. لذلك فانى لا أقف معارضة لحملات مناهضة التحرش فى المناسبات والأعياد، ولكنى فى ذات الوقت مع عدم التوقف عند ظاهرة التحرش، وإنما لابد ان نبدأ النزول الى عمق الموضوع وهو العنف المجتمعى العام الذى يخرج منه كل اشكال العنف والتى تأتى على سطحها مسألة التحرش. وللحديث بقية لمزيد من مقالات أمينة شفيق