نستحق نحن سكان هذا الكوكب، بكل جدارة واقتدار العقاب الذى فرضته علينا الطبيعة فى صيف 2018 وما نتوقعه من صيف 2019 وما سوف يتبعه من أعوام. ولكن للعدل، يستحق مواطنو الدول المتقدمة صناعيا نصيبا اكبر من ذلك العقاب الذى نستحقه نحن ابناء وبنات الدول النامية. لأنهم، اى ابناء الدول المتقدمة صناعيا، لم يقفوا بقوة ضد جميع الممارسات الخاطئة التى ارتكبتها رأسماليتهم ضد الطبيعة التى قدمت لهم الرفاه بيد، بينما تسحب باليد الاخرى كل عناصر الراحة والامان اللذين ينتظرونهما فى مستقبلهم، كما انهم يستحقون نصيبا اكبر من هذا العقاب لأنهم كانوا اكثر المستفيدين من عناصر الرفاه التى صاغتها لهم هذه الرأسمالية دون ان يتحسبوا نتائجها التى نبه اليها خبراؤهم ولم يستمعوا جيدا اليها. وفى مقدمة المواطنين الذين يستحقون عقابا اكبر يأتى مواطنو اكبر الدول استنزافا لكرم هذه الطبيعة وتوازناتها ورحمتها، وهم مواطنو الولاياتالمتحدة والصين. لقد أصاب عقاب الطبيعة كل الشعوب عندما وقع المتوقع الذى نبه اليه العلماء، وخاصة الغربيين المتنورين ومعهم عدد من العلماء الشرقيين والناشطين فى مجال البيئة واستمروا ينبهون إليه لعشرات السنين، وحل العقاب على كل البلدان كنتيجة لعدم احترام قوانين الطبيعة وتوازناتها وسماحتها، فارتفعت حرارة الجو الى درجات لم تشهدها شعوب أوروبا وارتفعت مياه الفيضانات فى فرنسا واحترقت الغابات فى اليونان وشهدت ولاية كاليفورنيا فى الغرب الامريكى اكبر دمار لغاباتها وتتابعت الاعاصير فى الشرق الآسيوي، ومع الاعاصير وقعت الزلازل فى جزر الأرخبيل الاندونيسى وحل الجفاف على ولايات استرالية بأكملها اشتهرت بإنتاج اللحوم مما اضطر الحكومة الى نقل المياه اليها لضمان عدم نفوق الماشية، بجانب كل ذلك بدأت بعض السلالات الحيوانية النادرة فى الاختفاء كنتيجة للتغيير الذى حل على بيئتها الطبيعية، فكان صيف عام 2018 عنيفا دفع ملايين البشر الى الزحف الى الشواطئ او تشغيل اجهزة ٍالتكييف، وفى الحالتين عانى الفقراء اكثر من غيرهم لأنهم لا يملكون ما يغطى تكاليف التصرفين أو حتى أى منهما منفردا. واذا كنا فى مصر قد اختبرنا شهر يوليو الفائت وقد ارتفعت درجات الحرارة فيه الى ما كان فوق معدلها الطبيعى بحيث زادت عن الاربعينيات فإن خبراء البيئة يتوقعون المزيد من هذا الارتفاع فى العام المقبل والاعوام التى تليه طالما استمر نمط استهلاك الطاقة واستفزاز الطبيعة على ذات المنوال العالمى الحالي، والاخطر من كل ذلك فسوف تقع الكوارث الأكبر عندما تتآكل الشواطيء والاراضى الملاصقة لمياه البحر وتدخل مناطق الدلتا الى المياه المالحة وتنكمش الارض الزراعية. فالدلتا المصرية كمثيلتها الدلتا البنجلاديشية معرضة للتآكل وازدياد الملوحة فيما يتبقى منها من الاراضى مما يؤثر على الانتاج الزراعى وبالتالى على طعام البشر فى البلدين، وإذا كان العديد من الاقتصاديين والاجتماعيين قد رفعوا شعار التنمية المتواصلة التى تهدف إلى التعامل مع ما نملكه من مقدرات وثروات طبيعية بحكمة لحمايتها للأجيال القادمة إلا أنهم قد أطلقوا شعارهم ونداءهم متأخرين بعد ان كنا قد وصلنا الى درجة عالية من استفزاز الطبيعة ارضا وبحرا وجوا وباتت ترد بدورها الينا استفزازها. واذا كنا اليوم نوجه سهام اللوم الى شعوب العالم الرأسمالى المتقدم فإننا لا نملك رفاهية عدم تقديم النقد الذاتي. فنحن ايضا ملامون على ما وصلنا اليه من نتائج لاستفزاز الطبيعة وعدم احترام قوانينها السمحة. وامامنا نموذجان يمكن رصدهما بغاية الوضوح: اولها تلك العشوائيات السكنية المتلاصقة او التى لا يفصل بينها الا امتار قليلة والتى نطلق عليها عبارة الابراج وهى لا تمت الى معنى العبارة بأى شكل، ليس فى عدم مراعاتها للقواعد الهندسية الملائمة لبلد حار رطب طوال العام فحسب او عدم اتباع اصول النظافة الجماعية او الصيانة التى يحتاجها بناء يضم عشرات الاسر ومئات الافراد، أو لمجرد تلاصقها وضيق حجراتها وانخفاض سقوفها وإنما لكل هذه الاسباب مجتمعة والتى لم تخضع لتخطيط ونسق معمارى يسمح بعدم تحولها الى عشوائيات بشرية يحشر فيها البشر مضطرين، وفى النهاية يضطرون للتغلب على ارتفاع الحرارة والرطوبة بتركيب أجهزة التكييف التى تقوم بدورها بإطلاق انبعاثاتها التى تزيد من استفزازنا للطبيعة وقوانينها السمحة، يتكرر ذلك فى بلد يملك ظهيرا صحراويا متسعا لمساحات ومساحات من المناطق السكانية الممتدة المبانى المتوسطة الارتفاع والمحاطة بالزراعات والحدائق والتى يجد سكانها براحا يتنفسون فيه ويتريضون حوله، هل تتذكر اجيالنا السابقة الهندسة المعمارية التى أنشئت عليها ضاحية مصر الجديدة واحتفظت بها حتى بدايات العقد الستينى من القرن الماضي؟ وهل نتذكر الاساس الهندسى والذى تم انشاء مدينة نصر على اساسه فى ستينيات القرن الماضى والذى تم التغاضى عنه امام زحف ما نزعمه من ابراج مع زحف الانفتاح الاقتصادى فى السبعينيات؟ وإذا اقتربنا من النموذج الثانى فسوف يطل علينا بشكل مباشر هذا العدد المهول من السيارات الخاصة التى تملأ إشارات المرور والتى حولت شوارعنا وأرصفتها إلى مواقف سيارات يصعب على المشاة اختراقها لشق طريق مستقيم بينها، لقد كان العذر القديم الذى يقدمونه هو سوء حالة وسائل النقل العام بحيث لم تعد تلائم مواطنى ومهنيى الطبقة الوسطى الصغيرة المصرية، ثم اتسعت التطلعات، حتى بعد التحسن النسبى فى وسائل النقل العام، بحيث لم تعد السيارة الواحدة تكفى الاسرة وانما تعددت بتعدد افرادها حتى لو كانوا طلبة، مما أدى فى النهاية الى ان باتت السيارات الخاصة عبئا ماليا على الاسرة وعلى المجتمع ثم على الطبيعة التى لم تعد قادرة على كثافة الانبعاثات، فانقلبت ترد الانتهاكات التى يسببها الانسان بارتفاع فى درجات الحرارة وزوابع وزلازل وحرائق. ثم بدأنا نفيق ونتجه إلى الطاقة البديلة النظيفة ولكن دون ان نكمل التوجه بأن نتجه فى الوقت نفسه الى الهندسة المعمارية التى تتفق مع طبيعة ومناخ بلادنا ليس فقط لأننا نسعى الى جمال الطبيعة ولكن لأننا نريد بناء انسان جديد. لمزيد من مقالات أمينة شفيق