بعد أن حسم الجيش السورى سيطرته على المناطق الجنوبية من البلاد بدعم من روسيا وقوات حليفة، بات الحسم النهائى على عموم الأراضى السورية مرهوناً بالانتهاء من تطهير محافظة إدلب وبعض مناطق فى ريف حلب الشمالى وأجزاء من اللاذقية، وهى واحدة مما عُرف بمناطق خفض التوتر التى اتفق عليها بين كل من روسياوتركيا وإيران فى الاستانة صيف العام الماضى، حيث أعُطيت مسئولية السيطرة على التوتر فى إدلب لتركيا، والتى قامت بدورها بإنشاء 12 نقطة مراقبة حصينة قوامها 1500 جندى، تم إنشاء غالبيتها من جهة الشرق ولم تظفر الجهة الغربية لإدلب على أى نقطة مراقبة تركية طوال الفترة الماضية. غير أن تقارير صحفية تركية أشارت إلى تجول فرق استطلاع عسكرية تركية فى المناطق الغربية لإدلب فى الشهرين الماضيين تمهيدا لإنشاء بعض نقاط مراقبة حصينة تحوط بها كتل أسمنتية كبيرة مثل تلك التى اقيمت حول نقاط المراقبة فى جهة الشرق. ووفقا لعملية نشر الكتل الأسمنتية التى نفذها الجيش التركى فقد استهدفت وضع خط فاصل حصين بين المناطق التى يسيطر عليها الجيش السورى من جهة الجنوب والشرق وبين المناطق التى تسيطر عليها فصائل مسلحة تعمل وتتحرك فى حماية الجيش التركى والتى يوظفها فى احتلال الأراضى السورية بصورة غير مباشرة، وبما يمنع الجيش السورى من تطهير المنطقة من تلك الفصائل المسلحة والإرهابية، أو على الأقل يجعل مهمة القوات السورية مليئة بالصعوبات والتضحيات فى حال اتخذ القرار ببدء عملية عسكرية موسعة ضد المسلحين والإرهابيين ومن يقف وراءهم. كما نشرت انقرة محطات إرسال لشبكات الاتصالات التركية فى عموم إدلب بديلا عن الشبكات السورية الرسمية، بما يساعد على إيجاد منطقة نفوذ تركية فى عمق الأراضى السورية. القيادات التركية وفى مقدمتها الرئيس أردوغان لا تخفى نياتها بالنسبة لإدلب، إذ يتصرف أردوغان باعتبار إدلب السورية وشعبها وديعة لديه ولدى الجيش التركى بموافقة كل من روسيا وإيران، وان لديه الحق فى التصرف كما يشاء وفى تحديد مصير المنطقة بعيدا عن سيطرة الدولة السورية وحكومتها الشرعية. وفى كل تبريراته الواهية يتجرأ بالقول إنه يحمى المدنيين السوريين، وأنه يعمل على عودتهم الى ديارهم ولكن دون التنسيق او التفاهم مع الحكومة السورية وانما رغما عنها ووفق الخطط التركية اولا وأخيرا. وفى هذا السياق يؤكد أردوغان رفضه قيام القوات السورية بأى عمل عسكرى أو غير عسكرى لمد سيطرة الدولة على أراضيها فى إدلب، ويقدم التطمينات المؤكدة للمسلحين العملاء بأنهم لن يتعرضوا لأى عمل عسكرى سورى، كما يرفض أى اتفاق للمصالحة على غرار ما جرى فى الجنوب السورى. ومن ثم سعى الى أمرين متكاملين؛ أولهما تثبيت وتعزيز الوجود العسكرى التركى فى المنطقة وفقا لما سبق بيانه، مع ربط المجتمع السورى فى إدلب بالدولة التركية عبر مصالح يومية ومعيشية يصعب الاستغناء عنها. وثانيهما تشكيل هيكل عسكرى موحد أو قيادة موحدة لجميع الفصائل المسلحة فى إدلب على أن يتولى الجيش التركى التمويل والتدريب والتسليح ووضع خطط العمليات لتلك الفصائل بما يفيد الخطط التركية فى إبعاد السلطات السورية الرسمية عن محافظة إدلب ككل، وبالتالى تظل منطقة نفوذ تركية خالصة. وكانت انقرة قد عوضت بعض تلك الفصائل المسلحة عن الأموال التى منعها الرئيس ترامب قبل عدة أشهر. وحسب المعلومات المتوافرة فهذه الهيكلية العسكرية تضم فصائل ما يسمى الجيش السورى الحر الذى سبق أن تحرك مع القوات التركية فى عملية احتلال عفرين مطلع هذا العام، وفصائل أخرى من بينها جيش إدلب الحر وجيش العزة وجيش النصر والفرقة الساحلية الأولى وفيلق الشام. وما زالت هناك فصائل اخرى لم تنضو بعد تحت مظلة هذه الهيكلية العميلة لأنقرة، أبرزها ما يعرف بجهة تحرير الشام وهيئة تحرير الشام أو النصرة سابقا وهى فرع القاعدة فى الشام والعراق. ومن مساخر الأمور ان أنقرة أطلقت على هذه الفصائل العميلة غرفة عمليات دحر الغزاة، والمقصود بهم تركياً الجيش السورى النظامى. معروف أن عدة آلاف من المسلحين والإرهابيين الذين فضلوا الخروج من الجنوب السورى ومن محيط دمشق فى الأشهر الأخيرة، ذهبوا إلى إدلب، وكثير منهم ليسوا سوريين وجاءوا من بلدان وسط آسيا بدعم تركى وتنسيق أمريكى سابق، وانضم بعضهم إلى فصائل مسلحة عميلة لتركيا والبعض الآخر ظل على انتمائه لفصيله الإرهابى الأم، خاصة هؤلاء الذين انتموا الى النصرة او القاعدة أيا كان الاسم البديل للتنظيم، ولما كانت النصرة مصنفة دوليا كتنظيم إرهابى، فقد سعت أنقرة إلى ضم هؤلاء تحت مظلة جماعات عميلة موجودة فى الشمال السورى، فى محاولة للظهور كمن أنهى وجود التنظيم، وبالتالى تخرج من عباءة المسئولية الدولية فى احتضان تنظيم إرهابى دولى. وبعض من رفضوا تلك السبيل أصبحوا مطاردين من المسلحين العملاء لأنقرة، وكلاهما يقوم بعمليات تصفية وقتل وتفجير فى عناصر الطرف الآخر فى داخل إدلب وفى ريفها معا. وبما يدل على أن سيطرة تركيا يمكن زعزعتها حتى من العملاء التابعين لها. ووفقا لاتفاق روسى تركى واستنادا لاتفاق الاستانة ومسئولية انقرة عن خفض التوتر فى إدلب، فإن عليها ان تجد حلا لهؤلاء التابعين للنصرة وهيئة تحرير الشام وعناصر داعش الذين استقروا فى إدلب بمعرفة القوات التركية وفى حمايتها، وهو ما تتملص منه تركيا، وتهدد بإلغاء اتفاق الأستانة، الذى لم يعد موجودا أصلا. ولكى تكتمل الصورة نشير إلى أن الحكومة السورية تصر على تحرير إدلب، وهو ما أكده صراحة الرئيس بشار الاسد، وتطرح بديلين إما قبول المصالحة على غرار ما سبق تطبيقه فى الجنوب السورى، وإما العمل العسكرى المباشر، حيث يتم تجميع اكبر عدد ممكن من القوات والآليات، فضلا عن ضربات جوية لا تنقطع ضد تجمعات المسلحين والإرهابيين فى ريف إدلب ومحيطها. وفى ضوء التجربة السابقة فإن العمل العسكرى يعد بمنزلة مقدمة لاتمام مصالحات تنتهى بفرض السيادة السورية، وهو ما لا تقبل انقرة به حتى الآن، وتستعد لمواجهة عسكرية مع القوات السورية، وتلك هى المغامرة غير المحسوبة والأخطر معا. لمزيد من مقالات د. حسن أبوطالب