يبدو من الأهمية بمكان مسارعة وزيرة الثقافة إلى توجيه الأجهزة المختصة بضرورة إعادة ترميم تمثال الخديو إسماعيل باشا عقب التشويه الذى حدث له، وهى ليست الواقعة الأولى فثمة عديد الأمثلة على عمليات إنتاج بعض التماثيل التى اتسمت بالقبح والتشويه التى قامت بعض المحافظات وأجهزة الحكم المحلى بتكليف بعضهم بها، وتخرج على هذا المستوى الردىء من الأداء الفنى وتسهم فى إشاعة ثقافة القبح المنتشرة فى البلاد. هذه الظاهرة السياسية والاجتماعية تشير إلى عدم مراعاة بعض القيادات البيروقراطية للجوانب الفنية والجمالية فى عملية تخطيط وتنظيم الميادين العامة فى مدن بعض، المحافظات ومراعاة الجوانب الجمالية فى التماثيل التى يتم تكليف بعضهم بإعدادها لبعض الشخصيات والرموز التاريخية المصرية، وهو ما يكشف عن ضعف الذائقة الفنية وراء قرارات قبول هذه التماثيل أو الترميم المشوه لبعضها، والأخطر هو هامشية البعد الثقافى فى عملية اتخاذ القرار المحلى، وغياب الرقابة البيروقراطية الأعلى على هذه الأعمال اللا فنية، والملاحظ أن الضغوط لرفع هذا الضرر المحيط بالفضاء العام تأتى غالبا من وسائط التواصل والتفاعل الاجتماعى على الواقع الافتراضى، وبكثافة تؤدى إلى سرعة تراجع بعض المحافظين أو رؤساء الأحياء، وإعادة النظر فى قرارات وضع هذه الكتل المشوهة للرموز التاريخية. عديد من مظاهر اللامبالاة بالإرث الثقافى المادى واللامادى، تبدو فى حياتنا اليومية وتشير إلى تهميش المكون والبعد الثقافى فى قراراتنا السياسية والإدارية، من هدم بعض الأبنية التراثية، أو إهمالها، أو تشويهها بدلا من ترميمها، وإعادة إحياء الأنسجة العمرانية فى المدن، لاسيما المناطق التاريخية. ثمة غياب للمكون الثقافى والجمالى فى تخطيط بعض المدن الجديدة، أو الأبنية المعمارية، التى أصبحت منذ عديد العقود رهينة المنظور القائم على تعظيم الربحية والمقاولات، وفى بعض الأحيان إغفال بعض الجوانب المتصلة بجماليات المكان وفضائه. هذا التهميش للثقافة يبدو فى السياسة التعليمية المدنية والدينية، التى يبدو فيها الانفصال بين مكوناتها وبين الثقافة، ومن ثم يسهل تأثير المعلمين والمعلمات من ذوى الاتجاهات الدينية المحافظة والمتطرفة التأثير على توجهات الطلبة والطالبات من خلال الدرس حول الدرس المقرر. غابت الثقافة والفنون عن مناهج التعليم المقررة، وسادت المقررات التى تعتمد على الحفظ والتكرار والتلقين، والأسئلة والإجابات النمطية الجاهزة، وغاب الابتكار والإبداع الذى يعتمد على التلاقح بين الثقافة والتربية والتعليم وتفاعلهما فى العملية التعليمية. ساد العقل النقلى ذو السند الدينى، فى كل العلوم الاجتماعية وامتد إلى العلوم الطبيعية، واعتمد على الأسئلة الجاهزة والإجابات المعدة سلفا. لم تهتم النخبة السياسية الحاكمة طيلة عديد العقود بمطالبات المثقفين والمفكرين المصريين بضرورة دمج المكونات الثقافية فى المواد والمناهج التعليمية، من خلال تكوين العقل النقدى من رياض الأطفال إلى التعليم الجامعى وما بعده، وذلك لأن العقل السلطوى البيروتكنقراطى لا يهتم بتقصى جذور المشكلات وتطوراتها، وكيفية مواجهتها، وركز على ضرورة استيعاب الزيادة السكانية الهائلة فى النظام التعليمى، وذلك فى ظل محدودية البنية الأساسية من الأبنية التعليمية، وإعداد المدرسين، والأدوات التعليمية اللازمة، مع استمرارية ذات المناهج المقررة، وأساليب التدريس التقليدية، وتدهور مستويات تكوين وتدريب وخبرة المدرسين والمدرسات، وعدم الاهتمام بدروس الموسيقى، والرسم والنحت، والمسرح والتدبير المنزلى، واللامبالاة بضرورة تطوير جذرى للسياسة التعليمية، وتربط بينهما وبين التنمية وتطوراتها وبين احتياجات سوق العمل. اعتمدت السياسة التعليمية على مناهج تكرس الطاعة والإذعان والتحيز لا النقد. من هنا تبدو الفجوات الواسعة بين مخرجات النظام التعليمى، وبين حاجات ومتطلبات سوق العمل وتطوراته التكنولوجية، وفى التخصصات التى يحتاج لها، ونوعية وكفاءة العمالة المطلوبة فى عديد التخصصات، وعدم كفاية تخصص الأعداد الضخمة من خريجى المدارس والجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة. أعداد ضخمة ونسب عالية من الخريجين غير الأكفاء وذوى العقول النمطية تم إعدادها لتغدو موظفين بالأجهزة الحكومية والبيروقراطية وفق الإرث الوظيفى التقليدى الذى تقادم به العهد. من هنا ظهرت كتل عارمة من العاطلين، لأن مستواهم التعليمى يجافى متطلبات سوق العمل، وأيضا العمل فى الوظائف العامة المكتظة بعمالة كثيفة غير كفء فى غالبها. إن جذور المشكلة تكمن فى الفجوة بين التعليم والثقافة، وفى غياب التخطيط العلمى، ومتابعة التطورات فى الأنظمة والسياسات التعليمية فى الدول الأكثر تقدما. تهميش الثقافة وعدم الاهتمام بها لا يقتصر على التعليم، أو التخطيط العمرانى، أو تجميل المدن، أو فى الأبنية الحكومية، وإنما يمتد إلى السياسة الخارجية ودور المكون الثقافى فى إطارها، لاسيما أن ميراث القوة الناعمة المصرية كثيف ورائد ومهم تاريخيًا فى الإقليم العربى، حيث شكل فائض قوة رمزية ومعنوية فى عملية إدارة التفاوضات السياسية والثقافية. أن إيلاء أهمية خاصة لهذا الدور البارز، سيسهم فى عملية توليد وتجديد الهيبة والمكانة الإقليمية والدولية لمصر، لاسيما إذا راعينا ضرورات حريات الرأى والتعبير والإبداع والبحث الأكاديمى. إن النخبة المصرية مطالبة بالاهتمام بالثقافة والتعليم والصحة بوصفها أولويات هذه المرحلة الحساسة من تطور العمل الوطنى، وهو ما يحتاج إلى ضرورة وضع سياسة ثقافية جديدة تدمج بين التعليم العام والمدنى وبين المكون الثقافى، وانتقال الثقافة من المركز إلى الإقليم ومن المدن إلى القرى، والتعاون بين المؤسسات الثقافية الرسمية، والمنظمات الثقافية الأهلية، وإعادة تأهيل كوادر الوزارة فى قطاعاتها المختلفة، وتطوير الإدارة الثقافية، وإدخال البعد الثقافى فى السياسة العمرانية. وهذا يتطلب زيادة ميزانية الوزارة التى يذهب ما يفوق 84.6% إلى الأجور والمكافآت، ما الذى يتبقى للأنفاق على الأنشطة؟ إعادة الاهتمام بالثقافة والمثقفين ضرورة وطنية ملحة. لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبد الفتاح