إذا كان مثال الخير هو الله عند أفلاطون، وإذا كان هذا المثال هو أعلى مرتبة فى عالم المُثل، وإذا كان هذا العالم مفارقا للعالم المحسوس الذى نعيش فيه فمعنى ذلك نفى العلاقة بين هذين العالمين. أما أرسطو فقد رفض هذه الثنائية واكتفى بعالم واحد فى أعلاه محرك أول هو الله يحرك ولا يتحرك ويساعده فى عملية التحريك محركون آخرون يتجاوزون الأربعين تخصصهم تحريك الكواكب. وهنا دخلت الكثرة على الله، إذ لم يعد منفرداً بتحريك العالم. ودخل الانسان بعد ذلك فى إشكالية جديدة ابتدعها أرسطو وهى أن الله عنده واحد ومع ذلك فهو متعدد. وهنا حاول فيلسوف آخر مواجهة هذه الاشكالية اسمه زينون وُلد فى قبرص فى عام 336 ق.م. ثم ارتحل بعد ذلك إلى أثينا. ارتأى أن هذه الكثرة من الآلهة إنما هى تجسيد لصفات متعددة لاله واحد. وهذا الاله الواحد موجود فى العالم وليس خارج العالم. لا يفقد نقاء وحدته بحكم أنه ضابط الكل ومن ثم فإنه يحكم الكون برمته بقوانين مطلقة وثابتة. ومن هنا يكون الله، فى رأى زينون، هو روح العالم ومهندس العالم المعصوم من الخطأ. وفى هذا السياق يتسم العالم بأنه كائن حى والهي. وفى هذا السياق أيضاً تأسست مدرسة فلسفية أُطلق عليها المدرسة الرواقية. والرواقية من الرواق الذى كان فيما سلف محل اجتماع الشعراء فدعى أصحابه بالرواقيين. وفى القرن الأول والثانى بعد الميلاد شاعت فلسفة أفلاطون دون فلسفة أرسطو إلا أنها اتخذت شكلاً جديداً فى الاسكندرية قيل عنه إنه بداية تأسيس «فلسفة الاسكندرية» ومؤسسها فيلون اليهودى الاسكندرى الذى قال إن الله مفارق ولكن ليس على غرار اله أفلاطون المنفصل عن العالم المحسوس لأنه خالق ومَعنى به إلا أن هذه العناية ليست مباشرة، إذ تتخذ وسطاء. والوسيط الأول هو اللوغوس أى العقل ثم يليه آدم ثم الملائكة. ومع ذلك فالعقل عاجز عن ادراك ذلك الاله. وقد قيل عن هذه الفلسفة الجديدة إنها الأفلاطونية الجديدة بدأها فيلون وأثراها أفلوطين الذى وُلد فى مصر الوسطى فى عام 205 م. ثم قصد إلى الاسكندرية حيث نشأ فيها مسيحياً ثم ارتد إلى الوثنية فارتحل إلى بلاد أخري. صورة الله عنده أوضح من صورة الله عند فيلون، إذ هو لايتبنى نظرية الوسيط إنما يتبنى نظرية الفيض، إذ ارتأى أنها الأفضل فى تناول العلاقة الشائكة بين الله الواحد والكثرة اللازمة عنه، وهى شائكة لأنها تستلزم الاجابة عن السؤال الآتي: كيف تخرج الكثرة من الواحد الذى يخلو من الكثرة؟ جاءت إجابته على النحو الآتي: إذا كان الله كاملاً فيلزم أن يكون فياضاً، أى محدثاً شيئا غيره. وهذا الشيء المحدث يتأمل الله فيصير عقلاً. وهذا العقل من حيث هو شبيه بالله فإنه يفيض فتحدث النفس الكلية، وهذه بدورها تتأمل العقل الصادر عن الأول فتفيض عنها فيوضاً كثيرة ومنها نفوس الكواكب ونفوس البشر وسائر المحسوسات. والمفارقة هنا أن صورة الله عند أفلوطين قد أحدثت تأثيرها على فيلسوفيْن ومتصوفيْن من العالم الاسلامي. الفيلسوفان هما الفارابى وابن سينا، فقد أخذا بنظرية الفيض فقالا كما قال أفلوطين إن عن الله الواحد لا يصدر إلا الواحد وإلا فإن الله تكون فيه كثرة. وهذا الواحد الصادر هو العقل الأول. وإذا تعقل العقل الأول خالقه صدر عنه عقل ثانٍ وهكذا حتى نصل إلى العقل العاشر وهو عقل العالم الأرضي. والمعنى الكامن فى نظرية الفيض هو أن العالم موجود منذ الأزل ومن ثم فهو غير مخلوق ومن حيث هو كذلك يكون مماثلاً لله، الأمر الذى دفع الغزالى إلى اتهام كل من الفارابى وابن سينا بالجنوح نحو الغرب الوثني، أو بالأدق الجنوح نحو الكفر والالحاد، ومن ثم تكون صورة الله عند كل من هذين الفيلسوفين زائفة. هذا عن الفيلسوفين الاسلاميين الفارابى وابن سينا، أما المتصوفان الاسلاميان فهما الحلاج وابن عربى فكان مصيرهما مثل مصير هذين الفيلسوفين. فقد قال الحلاج: أنا الحق، أى أنه هو الله. وقال ابن عربى: ما وصفناه بوصف إلا كنا ذلك الوصف. فوجودنا وجوده، ونحن مفتقرون إليه من حيث وجودنا، وهو مفتقر إلينا من حيث ظهوره لنفسه. وبسبب هذه الصورة التى كانت لديهما عن الله حكم على الحلاج بالاعدام وتم تنفيذه أما ابن عربى فكاد أن يقتل فى مصر ولكنه نجا. ولكن ما العمل إذا كان ثمة صعوبة فى الاتفاق على صفات محددة لله ؟ جاء الجواب من المعتزلة برفض القول بأن لله صفات لأن القول بها يعنى مشاركة الصفات لله، وبالتالى تكون مشاركة له فى القدم، وهذا من شأنه إنكار التوحيد. وفى هذا المعنى قيل عن المعتزلة إنها من المعطلَة التى تعنى إثبات وجود الله مع نفى صفاته. ومن هنا نشأت إشكالية المعطلة، ومن أجل إزالتها يلزم محاولة جديدة لتغيير صورة الله عند الانسان. فكيف حدث التغيير؟ حدث فى سياق الاشكاليات السابقة على إشكالية المعطلة بسبب أن كلها مؤسسة على إشكالية العلاقة بين الله والانسان أو بين الخالق والمخلوق أو بالأدق بين الواحد والكثير. والمغزى هنا أن الاشكالية تكمن فى الثنائية. ومن ثم يثار السؤال الآتي: هل فى الامكان إزالة هذه الثنائية؟ جاء الجواب من أوروبا مع نهاية القرن الثانى عشر عند فيلسوف اسمه أمورى دى بين (مات نحو 1207) عندما قال بالتطابق بين الطرفين، أى بين الله والطبيعة وأُطلق على هذا التطابق مصطلح وحدة الوجود. فماذا حدث لصاحب هذا القول وأتباعه؟. لمزيد من مقالات ◀ د. مراد وهبة