أعود إليه لأننى كتبت عنه من قبل (انظر كتابى أدباء ومفكرون، القاهرة 2008)، ولأنه ما زال، وأحسبه سيظل، هدفا للنقد، وإن كان هذا النقد يفتقر فى معظمه إلى ترتيب صحيح للأولويات. فالاهتمام بالفيلسوف المصرى الراحل ينصب أساسا على الجوانب السلبية من شخصيته وأعماله. وصحيح أن هناك ما يبرر تلك الانتقادات السلبية. فالعيوب المستهدفة فى حياة الرجل واضحة ولا يمكن الدفاع عنها. ومن ذلك ميوله الفاشية وإعجابه بهتلر؛ واستعلاؤه وأحكامه الظالمة والجارحة على كثير من أعلام عصره وزملائه، وحدة طباعه، وشدة بخله وتقتيره على نفسه. وهناك نوادر وطرائف كثيرة تروى فى هذا الإطار. وقد يمتد النقد إلى مؤلفات بدوى فيقال مثلا إنه كان يغلب الكم واتساع النطاق (تعدد الاهتمامات وغزارة الإنتاج) على جانب الكيف (التركيز والتجويد والإتقان). وقد يقال أيضا إن هذه المؤلفات وعرة يعيبها الإطناب المخل بالتناسب والاتساق. إلا أن التركيز على الجوانب السلبية من حياة الرجل وأعماله من شأنه أن يصرف الانتباه عما هو مهم حقا، أى إنجازاته الفكرية وإسهامه فى إثراء الفكر العربى، وأن ينسينا أن بدوى كان رغم كل شيء أكبر أستاذ للفلسفة وأهم فيلسوف فى العالم العربى فى القرن العشرين. وما زالت أعماله الفلسفية النظرية مثل الزمان الوجودى وهل يمكن قيام أخلاق وجودية؟ ودراسات فى الفلسفة الوجودية, تنتظر من يتناولها بالتحليل والنقد. لقد أتيح لى بحكم دراستى للفلسفة أن أطلع على بعض أعمال بدوى وأستعين بها فى كتاباتى. كما أتيح لى عندما عملت فى منظمة اليونسكو بباريس أن ألتقيه وأقترب منه شيئا ما. وأقول شيئا ما لأنه رغم شغفه بالحديث والثرثرة عن الأشخاص (أساتذة الفلسفة وطلابها)، كان يتحاشى التقارب ويقاوم من يحاول الاقتراب منه على الصعيد الشخصى. حدث ذات يوم أن أهديته نسخة من كتابى كتابات طه حسين الفرنسية. وكنت أطمع فى تعليقاته على محتويات الكتاب أى مقالات طه حسين التى من المؤكد أنه لم يكن قد اطلع عليها من قبل وعلى جهد المؤلف الذى اكتشف تلك المقالات ونقلها إلى العربية. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. فقد رد لى الأستاذ الكتاب الهدية واكتفى بتصحيح خطأ ارتكبته فى كتابة أحد التواريخ فى حياة جوته (فى مقالة طه حسين عن جوته والشرق). قلت لنفسى: «هذا هو التصرف المتوقع من عبدالرحمن بدوى. إنه ينأى بنفسه عن الغير. ويبدو أن الفيلسوف لم يكن بصفة عامة شديد الثقة بغيره من البشر ولا يتوقع منهم الخير الكثير». كما يبدو أنه كان يعانى جفاف حياته العاطفية. فهو لم يتزوج، ولم تروضه امرأة، ولم ينفذ إلى قلبه حب طفل. ولم يعرف عنه أنه كان له أصدقاء خلصاء. والانطباع الرئيسى الذى خرجت به هو أن عبدالرحمن بدوى كان رجلا وحيدا أو متوحدا. كان عندما التقيته يقضى ساعات الصباح فى المكتبة الوطنية بباريس، ثم يمضى بقية اليوم فى غرفته المتواضعة فى الفندق مع بعض الزيارات إلى متاجر الكتب أو إلى المقهى. وكان بعض الطلاب المصريين يحاول عندئذ التواصل معه، ولكنه لم يكن يرحب بهم. وكانوا فى رأيه كما عبر عنه لى يتطفلون عليه ولا يريدون إلا اللغو، ولا يرجى منهم خير على أى حال. رجل متوحد كما قلت. ولا بد أن ذلك التوحد كان من صنعه إلى حد ما إذا تذكرنا برنامج العمل الرهيب الذى فرضه على نفسه منذ بداية حياته العلمية. ومن الممكن - إذا صرفنا النظر عن كتابه «الزمان الوجودى» - فيها أو المحاور التى تدور حولها أعماله. فهناك إلى جانب اهتماماته الأدبية، دراسات تاريخية تشمل الفلسفة اليونانية القديمة مثل ربيع الفكر اليونانى وخريفه وأفلاطون وأرسطو، وتمتد إلى العصور الحديثة، مثل كانط وهيجل وسارتر؛ وهناك أعمال تركز على انتقال الفلسفة اليونانية إلى التراث الإسلامى وتأثير الفلسفة الإسلامية على الثقافة الأوروبية؛ وهناك كتب جامعة أو موسوعية (مثل مذاهب الإسلاميين وموسوعة المستشرقين وموسوعة الفلسفة, وهناك أخيرا مشروع لترجمة مائة من روائع الأدب العالمى التى كتبت بلغات مختلفة، ومنها«دون كيخوته» لسيرفانتس، وعدد من أعمال جوته. ولم يستطع بدوى أن ينفذ من هذا المشروع الأخير إلا أقله. وكان ذلك أمرا طبيعيا ولا مفر منه. فقد كانت تلك مهمة ينوء بها عدد من الرجال. وما كان لعبدالرحمن بدوى أن ينجز برنامجه كاملا حتى لو عاش لمئات من السنين، وذلك لأن البرنامج كان فى توسع وتفرع مستمر. فإذا جئنا الآن إلى كتاب الزمان الوجودى وهو الكتاب الذى رأى طه حسين أنه يبشر بظهور فيلسوف عربى وامتداداته التى أشرنا إليها، فقد يبدو من المؤسف أن بدوى لم يركز على بحوثه الفلسفية النظرية وما قد يتفرع عنها، وأنه انصرف إلى الدراسات التاريخية فى الفلسفة الغربية والفلسفة الإسلامية، وإلى أعمال التحقيق والترجمة والتصنيف. وقد نعزو هذا الانصراف إلى أن الرجل نضب معينه فى مجال الإبداع الفلسفى. ولكن الحقيقة هى أن بدوى كان مدفوعا برغبة عارمة فى كسر كل الحواجز، وتحدى كل العقبات، والإلمام بكل شيء، وتحقيق ما لا يستطيع غيره تحقيقه. ومن الممكن أن يقال أيضا إنه كان يشعر بأن هناك مهمة تاريخية كبرى ملقاة على عاتقه وأنها تدعوه هو وحده إلى النهوض بها، وهى مهمة التمهيد لدراسة الفلسفة دراسة جادة وللتفلسف. كان يريد فيما يبدو أن يجعل من نفسه جسرا تستعين به الأجيال التالية من الطلاب والباحثين بغية العبور إلى مراحل جديدة من الابتكار. ولقد وفر لهم بناء على ذلك الأدوات اللازمة، وشق لهم الطرق التى يمكنهم أن يسلكوها، وحدد لهم الغايات والمقاصد البعيدة التى ينبغى السعى إليها. وما زالت تلك الكتب الجسور فى حاجة إلى الدراسة الفاحصة وتدعو إلى الإفادة منها. لمزيد من مقالات ◀ عبد الرشيد محمودى