هما مصريان الأول شهيد، والثانى بطل. لم يبحثا عن شهادة أو بطولة، فكتبها الله لهما وقد كان ضمير كل منهما يقظا، وهو الحاكم وحده، ومن خلاله كانا يبحثان عن الحياة، وحب الوطن، فجمعت بينهما الأسطورة والإبداع. أصبحا معا، فى فكرنا المعاصر، منارات تنير المسار للأجيال القادمة، وتفتح أبواب التاريخ، كما أصبحا جملة مهمة فى عمر الزمن، وسطورا من حياة المصريين، وبما حققاه فى حياتيهما وفى تاريخنا، صارا معا للأجيال القادمة هرمين لا تخطئهما الأعين. اخترت اليوم أكتب عن المنسى، رمز الشهادة المعاصر الذى لن يكون منسيا فى تاريخنا أبداً، والشهيد هو العقيد أحمد صابر المنسى الذى مرت علينا ذكراه الأولى منذ أيام..رحل فى غير أوانه، رحل ولم يكتمل عطاؤه لوطنه وأسرته، كان فى قمة عطائه وصحته عندما بات شهيداً، ورمزاً مصرياً لمقاومة كل المصريين للإرهاب والتطرف، وما يخلفانه من تعصب وانهيار للقيم والمجتمعات، ومن تدمير لبيئة الحياة الطبيعية للناس. أما البطل فهو باقى زكى يوسف، وهو بالفعل مازال باقياً وسيظل فى المكان والزمان، وقد رحل بعد أن تصور أنه اكتمل عطاؤه، ومع الأسف لم نستطع، كما تعودنا، أن نعطيه حقه أثناء حياته، فلنحاول بعد رحيله أن نفعل شيئا قليلا، ونذكره للأجيال دائما. فالحياة، كما نؤمن ونعتقد، متواصلة، (حياة ورحيلاً)، لأن الخالق لم يخلقنا عبثا، بل لنعمر ونبنى للأجيال الحالية والقادمة، فما نسطره يظل باقياً وخالداً. وما حققه باقى هو أنه كان البطل الذى هدم الأسطورة، أسطورة خط بارليف، ليبنى أسطورة المصريين، وباقى زكى يوسف هو المهندس أو المفكر أو المبدع الذى فكر فى استخدام مدفع يعمل بالمياه المضغوطة لإزالة خط بارليف المنيع، وكانت قد أقامته العسكرية الإسرائيلية، وقالوا فى تل أبيب إنه لا يُزال إلا بقنبلة ذرية، معلنين ومؤكدين بقاءهم فى سيناء، وسيطرتهم على قناة السويس، ليسقط الحائط المنيع بفكر ودماء المصريين، وتسقط معه أحلام العدو فى البقاء على أرضنا. وكشفت عبقرية سقوط خط بارليف للمعتدى عن قدرة المصريين، وإبداعهم لإنهاء الاحتلال، وسيطرتهم على كامل أراضيهم. رحلا من حياتنا القصيرة ليتربعا على عرش الحياة الباقية أبداً، وسواء كانت الحياة قصيرة أم طويلة، فقد اكتملت لهما الأسطورة الباقية والمتجددة، وكتب (المنسى وباقى) فصلاً جديداً، يكشف بعضا من ملامح شخصية الشعب المصرى، وعبر حياتيهما وسيرتيهما بين الناس تستطيع أن تكتشف فصلاً آخر من التكوين الحضارى للمصريين، ومن خلاله تستطيع أن تعرف أو تسبر أغوار المستقبل، لكى تستشرف مستقبل الشعب المصرى. ونحن نعيد كتابة سيرتيهما نريد أن نجعلهما روحاً نبثها فى روح أهل مصر من جديد، لكى تكون جزءاً من عقلهم الواعى، بعد أن كمنت فى ضميرهم أو فى اللاوعى لدى الكثيرين، لتكتمل لها قوة الوعى بين العقلين (الواعى والباطنى)، حتى نصنع معجزة جديدة أو جماعية يتطلع إليها كل الوطن. لم تكن بطولة الشخصية (باقى ومنسى) عملاً فردياً لحياتيهما وحدهما، بل كانت عملاً جماعياً لكل أهل مصر. أحمد صابر منسى، عقيد فى جيشنا الباسل، تجسدت حياته فى حب جنوده، فكر فى وطنه وليس فى حياته، لم ينس زوجته وأسرته الكبيرة، وهو مقدم على التضحية بالحياة، فقد ضمهم جميعا إلى كل وطنه، وعرف أنه يرحل ليعيشوا، فرحل مطمئنا، وبقى ليكرس حضوره واستمراره فى وجداننا جميعا، كما ترك لنا رسالة مؤداها، ببساطة، أن هذا الوطن يحتاج إلى كل أبنائه ليفكروا فيه، ويقدموا الوطن على أنفسهم، فلم يكتب فصلاً للشهادة، بل كتب فصلاً فى حياة المصريين للإصلاح والتغيير والتطور إلى الإمام، فصلا لم يقله كلاما أو حتى كتابة بل فعله فعلا، ودفع حياته ثمنا، فحق علينا تخليده وتذكره، ليس بالدعاء وحده، بل باستلهام مساره، والسير فى طريقه، فقد أدرك فى جزء صغير من الثانية أنه لا يقبل أن يرفع علم التطرف والإرهاب، ولو لساعات على أرض سيناء، ولم يقبل أن يتلوث فردوس الفيروز، فجعل من دمائه ساتراً، ليحمى زملاءه ليتقدموا، ويُسقطوا الإرهابيين وأعلامهم إلى الأبد. فى حياته العميقة والكبيرة، وعمره القصير، سطر الأسطورة، وأعلن للوجود كاملاً، طفلاً وشاباً وشيخاً، أن المصريين كلهم لن يقبلوا بالإرهاب والتطرف والعنصرية الدينية، ولن يقبلوا بوجود الجماعات المتشبهة بالإسلام فى مستقبل حياة المصريين. أما باقى زكى يوسف فقد فتح لنا ولجيلنا وبلدنا الحياة، لنعيش أحراراً منتصرين، وأثبت قدره العقل المصرى المبدع يوم السادس من أكتوبر ،1973 يوم النصر العظيم، عندما سقط الساتر الترابى. كانت فكرة غير مألوفة، استخلصها من عمله فى السد العالى لينقذ كل مصر من عار الاحتلال، وسيطرة العدو على أرضها. وبها اندفع الجنود بعد تجريف خط بارليف ليحرروا الأرض..وبها كانت نقطة الانطلاق نحو النصر الغالى، وبها حطم أسطورة الجيش الذى لا يقهر، وأسقط سداً لا يسقط أمام الدنيا، وبها أعلن بقاء المصريين منتصرين، وذوى كرامة، وقدرة أمام أنفسهم قبل العالم. ما جمع بين المنسى وباقى أنهما من جنود جيشنا الباسل، وفكرا وعملا للوطن كله وليس لنفسيهما فقط، وفتحا لنا طريقاً للمستقبل بعد أن بنيا اللبنة الأولى الراسخة، أو نقطة انطلاق مصر الحديثة التى نحلم بها ولها. لمزيد من مقالات ◀ أسامة سرايا