تثور– من وقت لآخر- فى عالمنا العربى الإسلامى دعاوى تجديد الخطاب الدينى ويتم مخاطبة رجال الدين بها من حيث إنهم المنوط بهم هذه المهمة. ينطوى هذا الطلب الموجه لرجال الدين على اتهام ظالم لهم بأنهم – ولو جزئياً أو بصورة غير مباشرة- سبب التشدد الدينى الذى يؤدى أحياناً إلى حالات العنف التى تحدث هنا أو هناك، مثلما حدث فى مصر العام الماضى من حوادث مثل حادثة تفجير كنيسة مار جرجس فى طنطا والكنيسة المرقسية فى الإسكندرية وقتل 300 مصل فى مسجد الروضة قرب مدينة العريش ومحاولة الهجوم على كنيسة مارمينا فى حلوان. الرأى لدينا أنه لا يمكن القول بأن رجال الدين هم سبب هذه النزعات المتطرفة من ناحية وذلك لأنه فى القرية الكونية التى نحيا فيها الآن والتى تظللها سماوات مفتوحة تنتشر من خلالها- بفضل تكنولوجيا الاتصال الحديثة- سائر أدوات المعرفة بسرعة غير مسبوقة لا يمكن الجزم بمصدر محدد للمعرفة يمكن الإشارة إليه على أنه هو المؤثر والمنتج لسلوكيات محددة. من ناحية أخرى، نزعم أن رجال الدين لن يتمكنوا- على الحال الذى نحن عليه الآن- من تحقيق الهدف المطلوب للاعتبارات منها: يعيش مجتمعنا العربى بكل طوائفه أنظمة سياسية اختلفت فى أساليب حكمها وتعاملها مع شعوبها من دولة لأخرى وفى الدولة الواحدة من وقت لآخر، إلا أنها جميعاً كرست لثقافة غياب تعدد الآراء. وعلى مستوى الأسرة فالأب هو الآمر الناهى ومجرد مناقشته أو الرغبة فى النقاش إساءة للأدب. ليس رجال الدين فى تكوينهم – مثلهم مثل بقية طوائف الشعب- سوى نتاج لثقافة التلقين، وتضييق نطاق النقاش والاختلاف وعدم الإنصات للآخر وتجريم الاختلاف وبالتالى انعدام أو قلة فرص الإبداع أو التحديث. وبالتالي، فأن نتهمهم بعدم تغيير أو تحديث مناهجهم أو خطابهم وعدم ملاءمة الخطاب الحالى للعصر يماثل اتهام قائدى سيارات خاصة- كثُر عددها مع الوقت- بترك سياراتهم فى الممنوع رغم أننا لم نُحدث أماكن ترك السيارات لتستوعب هذه الزيادة. كيف نتهمهم بالانغلاق أو عدم التحديث وقد نشأوا في، مجتمع حارب من كان فى يدهم زمام الأمور الديمقراطية والتفكير الحر طويلا وأجهضت كل محاولات تعليم أفرادها التفكير الحر والإبداع؟ الرأى لدينا أن المجتمع- وليكن حديثنا عن المجتمع المصري- فى حاجة إلى حملة قومية تخلق بيئة تعليمية ثقافية سياسية تنشر قيم التنوع والاختلاف وقبول الآخر واستقلالية التفكير وترسخها فى المجتمع. هذا يكون بالعمل بشكل متواز على ترسيخ الممارسة الديمقراطية التى أساسها الحرية السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن ناحية أخرى على خلق بيئة تعليمية تُثوّر فيها مناهج وطرق التعليم التى تقوم على ثقافة التفكير الناقد وتشجع الإبداع. متى سادت هذه القيم – وهو ما لن يحدث بين يوم وليلة- وأصبحت جزءا من عقيدة الأمة يغرسها التعليم وينميها الإعلام وترسخها المؤسسات الثقافية والسياسية، أضحى التجديد عملية مستمرة لا تتوقف، وناتجا مباشرا طبيعيا لفكر مقوماته هى التنوع والاختلاف والتسامح، فكر قادر على التعامل مع مقتضيات العصر بما تحتاجه. ولأن رجال الدين جزء من هذا المجتمع، يتفاعلون ويتأثرون ويؤثرون فى أفراده، فكما عاشوا مجتمع التلقين، سيحيون مجتمع التفكير الحر والإبداع. أتوقع أن تفكيرهم سيتغير وتناولهم لموضوعات الدين سيختلف، وإن لم يختلف، يمكننا عندئذ اتهامهم بالتقصير. المهم ألا نقصر نحن فى حق المجتمع الذى يمثل رجال الدين جزءا منه يتفاعل معه بالضرورة قبل أن نتهم غيرنا بالتقصير. ----------------- أستاذ الفلسفة- جامعة المنيا لمزيد من مقالات د. بهاء درويش