في قصة للكاتب الفرنسي العظيم أناتول فرانس (1844-1924م) تدعى «البهلوان والعذراء» تحكي عن بهلوان ولد في السيرك ولم يتعلم إلا بعض الألعاب البهلوانية التي أتقنها منذ طفولته. وبعد فترة كان يطوف في الشوارع يقدم تلك الألعاب وينتظر بعض النقود نظير هذا، ثم ينزوي في أحد الأماكن ينام في العراء. وتمر الأيام بردا وحرا، وجوعا وشبعا، وهو يطوف المدن والشوارع يقدم ألعابه البهلوانية ليضحك الأطفال والكبار، وينتظر رزقه اليومي. وظل على هذا الحال إلى أن تقابل يوما مع أحد الرهبان، وقد كان الجو شتاء قارسا. ورق قلب الراهب على هذا البهلوان وجلس بجانبه يحادثه عن حاله، فشكى له أن الناس في البرد لا يخرجون إلى الشوارع ولهذا لا يجد هو قوته اليومي. فسأله الراهب: «هل تود الزواج وعمل أسرة وأولاد»، فرد عليه وقال له: «الا أفكر في هذا أبداً، فأنا كل ما أرجوه من الحياة هو كسرة الخبز والماء والنوم مستورا من البرد»، فقال له الراهب: «إذن لماذا لا تأتي معي إلى الدير، وهناك ستجد الطعام والمأوى». فاستحسن الفكرة وقال له «وهل سيقبلونني في الدير»، فقال له: «اترك لي هذا الأمر». وفعلاً سار البهلوان مع الراهب ودخل الدير، وتقابل مع الرئيس الذي رق لحاله وقبله ليكون راهباً وسط الرهبان. ولكن تمر الأيام والبهلوان يجلس وسط الرهبان ويرى كل منهم له عملا يعمله وكلهم حافظو الصلوات والمزامير وهو لا يعمل شيئاً ولا يعرف حتى كيف يصلي، فشعر أن حياته بلا قيمة لأنه لا يقدم شيئاً لله. وهنا خطرت لديه فكرة ففي تلك الليلة بينما الرهبان نائمون تسلل إلى الكنيسة ومعه أدوات اللعب التي كان يلعبها أمام الناس. وسجد أمام الله وركع وقال له: «لم أعرف أن أعمل شيئاً في حياتي إلا هذه الألعاب البهلوانية فاسمح لي أن أقدم لك عملي هذا كعبادة». وبدأ يقدم ألعابه أمام الله في الكنيسة وتكرر هذا العمل كل ليلة. وارتاب رئيس الدير والرهبان في سلوك هذا الراهب الجديد. وفي ليلة سار خلفه رئيس الدير ومعه بعض الرهبان لينظروا ماذا يفعل كل ليلة في الكنيسة. ودخل الراهب وسجد في الكنيسة وبدأ يعمل عمله البهلواني ويلعب ألعابه بكل همة ونشاط. وهنا ثار الرهبان وطلبوا من الرئيس أن يذهب لينهي هذه المهزلة وأن يطرده تماماً من الدير فكيف يتجاسر ويعمل هذا في الكنيسة. وكان رئيس الدير مندهشا وقال لهم: «لقد أصابه الجنون»، وبينما هم يتحركون ليطردوه حدث شىء عجيب، فبينما كان البهلوان غارقاً في عرقه من شدة التعب خرجت السيدة العذراء من الصورة التي في الكنيسة ومعها منديل مسحت عرقه وهي مبتسمة له. وهنا ذهب إليه الرئيس والرهبان يقبلون يديه ويطلبون منه الصفح لما قد فكروا فيه. فقال لهم باستغراب: «ماذا أنتم فاعلون؟ لماذا تعملون هذا؟»، فرد الرئيس: «لقد رأينا السيدة العذراء تمسح عرقك بمنديلها»، فقال لهم:نعم هي فعلت هذا، ولكني لا أستحق منكم هذا التكريم فأنا وسطكم إنسان جاهل وليس لدي أي حرفة، أنتم جميعكم تقدمون لله عملاً وعبادةً وأما أنا فلم أكن أعرف شيئاً إلا هذه الألعاب التي تعلمتها في حياتي. فجئت هنا وقلت لله «أتقبل مني ما أعرف أن أعمله عبادة صادقة بحب وأما هو فلم يخزني أو يكسفني وقبل مني هذا». عزيزي القارئ إن حياتنا تقاس بأعمالنا، بما نحيا لأجله. فيقول ابن الرومي: «يا أخي أنت مجرد فكرة وما بقي منك عظام وجلد». ويقول جورج دي بوفون عالم الطبيعة الشهير: «أسلوب الحياة هو الإنسان نفسه». ويبقى السؤال المهم أين موقعك من الحياة؟ والإجابة عن هذا السؤال تكون عملياً في حياتك ماذا تعمل؟ وكيف تعمل؟ فلا يهم نوعية العمل ولكن المهم أن تعمل بجد وبحب، أن تقدم تعباً في عملك وأنت سعيد وبلا تذمر. فما تعمله هو الذي يحدد موقعك في الزمن فأين كنت في الماضي أي ماذا فعلت في الأمس؟ وأين موقعك اليوم أي ماذا تفعل اليوم؟ وأين موقعك في الغد إذا شاء الرب وأعطاك عمراً؟ ولكن حين لا يكون هناك نفع فيما تعمل، فماذا تعني الحياة كلها؟ أحياناً أشعر أن الكثيرين يعيشون الحياة في حالة لامبالاة أو فقدان الرؤية تصل إلى حد أشبه بالإغماء. فحياتهم حالة استهلاكية، فالمهم فقط هو امتلاء المعدة وقضاء الوقت، وكأن الحياة هي مجرد مقعد أمام الشرفة يتابع الجالس فيها أخبار وأحوال الناس دون أن يكون له دور فعال في الحياة. لذلك أدعوك عزيزي القارئ أن تعطي عنواناً للأمس في حياتك ما هو؟ والأسبوع الماضي، والشهر الذي مضى، والعام الذي مضى ما هو عنوان الحياة كلها؟ تُرى حين تقف أمام الله بعد قضاء العمر ويسألنا عن الحياة كيف سنجاوب؟ هل سنقول أكلنا وشربنا وضاع العمر؟ أم نستطيع أن نقول له قدمنا في أيامنا عملاً إيجابياً بنينا وزرعنا وخدمنا إخوتنا، كنا نوراً في الطريق لآخرين، وهل وضعنا أمامنا دائماً أننا سنعطي حساباً عن أعمالنا أمام الله؟ يقول القديس الأنبا أنطونيوس: «في كل موضع تحل فيه اجعل الله بين عينيك». وكان الإسكندر الأكبر في نهاية أيامه قد أوصى أحد التابعين له أن يقول له قبل كل حديث أو فعل: «سيدي تذكر أن الموت قادم». فكان يعمل حساباً أكثر لما يفعله في الحياة. فالحياة الجادة هي التي تثمر عملا، أما المتراخي في زرعه أو عمله فلا يمكن أن يجد ثمراً. والبطولات تُنسب لهؤلاء الذين عاشوا محاربين أو أصحاب الإنجازات ولم يبالوا بتعب أو ألم في طريق حياتهم. فقبل أن تضيع الأيام من بين أيدينا في تراخ يجب أن تعمل، يجب أن تحيا، حتى تقدم أمام الله حساباً عن أيامك فيها حياة وعمل. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس