دقت الحيوية أبواب التذكار عند كل كلمة فى ملحق الجمعة الماضي؛ كانت الكلمات تتابع وكأنها احتفال موسيقى عارم بالفنان الشاهق يوسف إدريس ، فأيقظت الحكايات والوقائع بعضا مما عرفته عن هذا العظيم النادر ؛ هذا الذى كنت الحريص على متابعة إبداعه دون اقتراب مباشر منه حتى لا تجرفنى جاذبية توهجه إلى التواجد كدرويش مسحور أدور حوله ؛ ثم شاءت الصدف أن نلتقى فى نيويورك , وانسابت الكلمات القادمة عن علاقة قريبة وبعيدة من نجم جليل الإبداع، يوسف إدريس . .......................................... إن السماء التى هى سقف الارض إلا أن سماء خيالى تختلف عن أى سماء أخرى . وعلى الرغم من أن الارض هى موقع حركتنا جميعا إلا ان هناك فى ذاكرتى توجد أرض أخرى تفترش برمال شاطئ رائع وتضم قصر احلامى الذى لا يدخله احد غيري؛ وداخل هذا القصر أعيش سيد تذكاراتى الناعمة والخشنة ايضا. هذا ما كنت افكر فيه وأنا أخطو إلى قاعة المحاضرات التى سيلقى فيها يوسف إدريس محاضرة عن فن الكتابة وتاريخه كقصاص ؛ وكان برفقة اثنين من اصدقاء عمري؛ الطبيب الجراح فؤاد بشاى ميخائيل و أستاذ الادب عاكف أبادير النحال . فؤاد يقوم بتدريس جراحات التجميل فيما بعد جراحات الاورام وهى تحتاج موهبة نحات مصحوبة بدراسة متقنة للرسم ؛ ويكاد بيته أن يكون هو القصر الذى يستقبل كثيرا من القاهريين الذين يزورون نيويورك. اما عاكف فكان رئيس تحرير مطبوعات صندوق السكان المراقب لاحوال البشر فى عموم الكون وهو أحد هيئات الأممالمتحدة ؛ فضلا عن انه محاضر لبعض الوقت فى جامعة كولومبيا لمادة الأدب العربى. وكانت رحلة يوسف إدريس قد قررها له الرئيس السادات لعلاجه مما يعانى منه وهو عدم التوافق مع احوال السياسة المفتقدة للعدالة والتى شرحها بشكل متفرد فى مسرحية الفرافير؛ حيث كانت خلاصة الحياة هى وجود سيد وعبد؛ فلا يوجد مجتمع يعيش فيه كل إنسان بموهبة احترام لإنسانية الباقين. ووصلت ضحكات يوسف إدريس بصخبها الآخاذ وهو يسمع ما يقوله د. فؤاد الذى أخذ يقرر أن شركات السلاح وشركات الدواء قد اطلقت فى الفضاء سفينة تجاور القمر وتخرج منها رسالة قصيرة تشبه التلغرف وهى جملة واحدة تقول « الكرة الارضية هى مكان للاغنياء فقط وعلى الفقراء، ان ينسحبوا منها» . ويتابع د. فؤاد: ولكن إذا فكر الفقراء فى الانسحاب فعلا سيتم قهرهم كقهر العبيد فى روما القديمة او مزارع القطن فى الجنوب الامريكى أو كما جرى فى حفر قناة السويس؛ ولا يهم كم يموت من الفقراء، فالمهم هو رفاهية الأثرياء؛ لأن الدنيا موجودة للأثرياء فقط. وهنا تدخلت قائلا: انت يافؤاد تتحدث امام صاحب مسرحية الفرافير؛ التى لم تكن شكلا جديدا من اشكال المسرح فقط ولكنها كانت صرخة رفض لأى استغلال البشر لبعضهم البعض. وما إن وصلنا إلى ساحة جامعة كولومبيا حتى ترجلنا إلى قاعة المحاضرات. وهى إحدى قاعات المكتبة وأعداد الحاضرين لمحاضرة عربية لم يكن كبيرا كما لم يكن صغيرا. وبدأ عاكف فى تقديم الكاتب الموهوب؛ وكان معى قرابة العشر نسخ من أحب روايات يوسف إدريس لقلبى وهى «البيضاء» تحكى الحب المتوهج ومطاردة السياسة للحب. وكنت قد طبعت الرواية أثناء إشرافى على سلسلة الكتاب الذهبى. ووضعت النسخ أمام الكاتب الكبير الذى فطن إلى أن من سيطلبون نسخة منها سيزيد بالتأكيد على النسخ العشر، لذلك فطن إلى حقيقة واضحة فقال « هناك ثمانى نسخ ستوضع فى المكتبة أما النسختان الباقيتان فعندى من سوف أهديها لهما؛ نسخة لمن دعانى للمحاضرة ونسخة لصديقى فؤاد بشاى». وبدأ الحوار عن الأجيال وكيف أن الجيل الجديد فى كل عصر يتعجل السيطرة على إدارة الحياة ولا يخفى زهقه من الأجيال الأكبر فى العمر. هنا سأل يوسف إدريس عن قصصه القصيرة وهل هناك نسخ منها فى المكتبة حيث إنه عالج هذه المسألة فى قصة يحمل فيها شاب والده فوق أكتافه إلى ان تعفن الاب من فرط الموت. ولما لم تكن توجد مجموعة القصص المطبوعة فيها تلك القصة حتى قال يوسف إدرس «لا يهم». ثم راح يتلو كلمات القصة من ذاكرته. وكنت مندهشا فأنا لا اتذكر حتى القصص او الروايات التى اقرأها فكيف لهذا الروائى أن يلقى قصة من ذاكرته رغم انه قد كتبها منذ سنوات؛ فقط تذكرت ان تلك كانت عادة موجودة عند كاتب واحد هو يحيى الطاهر عبد الله؛ فهل يختص كتاب القصص القصيرة بموهبة الحفظ لما كتبوه؟ قررت ألا اسأل يوسف إدريس عن ذلك إلا بعد ان يراجع د.عاكف كلمات القصة التى ألقاها يوسف إدريس لتوه مع كلماتها فى المجموعة القصصية الموجودة فى منزله . وقد حدث ذلك بعد أن راجع عاكف شريط تسجيل الندوة وكلمات القصة المطبوعة، فراح يحدث الجميع عن عادة العبقرى يوسف إدريس. ..................... و دخلت إلى القاعة د. تريز لوجان الطبيبة النفسية ومديرة مركز إعادة تأهيل رجال ونساء منتصف العمر لكيفية إدارة حياتهم بعد الخامسة والاربعين. وكان جمال تريز لوجان يفوق مانراه فى نساء نيويورك؛ وكنت اطلق على نساء نيويورك إشاعة أنهم يشبهون عساكر الامن المركزى الذى كان وزير الداخلية المصرى نبوى إسماعيل يوزعهم امام السفارات . وكان رأيى ان معظم من رأيتهن من نساء نيويورك هن خشونة معبأة فى هياكل انثوية . لكن تريز لوجان التى سبق لى التعرف عليها من قبل ذلك قد تختلف ؛ لأنها ليست جميلة فقط بل أخاذة . وهى راهبة أيرلندية هربت من الدير الأيرلندى لتهاجر إلى الولاياتالمتحدة ولتدرس الطب وتتخصص فى علاج أزمات منتصف العمر ولأنها تمت بصلة قرابة لزوجة د. عاكف لذلك كان لابد من الاحتفاظ بمسافة عدم إظهار الانبهار بجمالها الحى والجذاب. وخرجنا من لقاء عشاق ادب يوسف إدريس فى جامعة كولومبيا ليشير إلى الجدران المزدحمة بالكتب متسائلا «كل تلك الكتب وكل من قرأها لابد أنها اضافت لهم رصيدا إنسانيا، لكنا لا نجد هذا الرصيد الإنسانى فى تعامل الولاياتالمتحدة مع بقية بلدان العالم». هنا قال فؤاد فى الرأسمالية لا تسال عن الإنسانية؛ تماما كما تسأل فى الشيوعية عن كرامة الفرد، كل المذاهب رأسمالية او اشتراكية تهتم بما أوجزته انت فى مسرحية الفرافير، فهنا استنزاف وهناك قهر وبين الاثنين يتعلق الإنسان فى وهم الديمقراطية . هنا ابدى يوسف إدريس إعجابه بما ينطق به جراح التجميل. واتجهنا إلى حى «إيطاليا الصغيرة» وهو عبارة عن عدة شوارع بسيطة بجانب حى القرية «وحى» إيطاليا الصغيرة يضم أرقى مطاعم البيتزا وهو مملوك بكامله للمافيا. ولا يتعاملون بالفيزا كارت بل لابد ان تدفع ثمن مأكولاتك ومشروباتك بدولارات ورقية. وطبعا فوجئنا بسيارة كاديلاك طويلة جدا تبدو كأنها صالون متحرك ولم يكن يوسف إدريس وكاتب هذه السطور يعلمان لمن مثل تلك السيارة؛ وبدلا من ان تستمر دهشة التساؤل طويلا لفتت د. تريز لوجان انظارنا إلى حارس بجانب السيارة يحمل مدفعا رشاشا وقالت «لابد ان احدا من سادة المافيا هنا. قال يوسف إدريس «هل يمكن ان نتكلم معه إن نزل من السيارة؟» ضحك د. فؤاد ليقول « سيتكلم رصاص المدفع الرشاش قبل ان نقترب من شخص رجل المافيا». وما إن جلسنا فى مقهى ومطعم بيتزا يعرف جرسوناته د. فؤاد بشاى ود. عاكف؛ بدأ يوسف إدريس فى إستجواب د. تريز عن أزمة منتصف العمر. وطبعا كانت تريز لوجان كطبيبة تشرح إحساس الرجل عندما يجد نفسه على الحافة، إما ان يصيبه الحظ فيرتقى إلى وظيفة اعلى فى سلم الإدارة وتسند له إدارة الشركة التى يعمل بها مكانة ذات دخل يؤمنه او أن تلقيه الشركة بعيدا عنها. ولذلك تكثر أزمات القلب وإجراء جراحات القلب لتغيير الشرايين. ولم تكن علاجات القلب فى ذلك الزمن من عام 1979 توصلت إلى التقدم الحالى. وطبعا وجدت شركات التأمين أن تكلفة علاج الرجال فى ازمات منتصف العمر كبيرة لذلك افتتحت مراكز طبية نفسية يلتحق بها موظفو الشركات اصحاب الدرجات ما قبل العالية أى ما تحت درجة مدير عام. وذلك لتهيئة هؤلاء لكيفية تقبل الواقع وضرورة البحث عن هواية تسرق الاهتمام وتواسى الأحزان الدائرة كالمرجل فى صدر رجال تلك المرحلة. وعندما يصل الواحد لعمر التقاعد يمكنه ان يضمن لنفسه حياة غير لاهثة شرط ان يكون قد قام بالتأمين على صحته عند شركة تأمين كبيرة. وكان سؤال يوسف إدريس عن نساء منتصف العمر، ضحكت تريز لوجان قائلة «كأنك تسألنى عن نفسى . الخيال يا صديقى يقوم بتهيئة الحياة المقبولة ، كما أن الصحبة مطلوبة للمرأة كما هى مطلوبة للرجل». وروت تريز ليوسف إدريس كيف يشك الرجل فى قدراته الجسدية لذلك قد يلجأ إلى التجربة العاطفية خارج الزواج؛ لكن المرأة قد تشك فى أنوثتها فتحاول إن كانت متزوجة ان تبدو نضرة معظم الوقت لتحفظ الزوج ، وقد تكون غير متزوجة فتحاول الاحتفاظ بالصديق. فالإنسان فى امريكا هو الإنسان؛ يحتاج لمن يبادله الحب ويقدم له الرعاية. وإن كان لدى المرأة ابناء فعادة ما ينفصلون عنها لحياتهم كما ينفصل الابناء عن آبائهم وإن كانت هناك مشكلة معاصرة تعصف بالمزاج النفسى للمرأة او الرجل وهى عجز الابناء عن العثور على عمل، ولهذا يطول زمن بقاء الابناء فى صحبة الأم او صحبة الاب. وغالبا ما يكون للام صديق او للاب صديقة. فنسبة الطلاق فى الولاياتالمتحدة كبيرة كما تعلم؛ وهنا تنفجر المشكلات بين الابناء والاباء. وعلاج ذلك ليس سهلا. لأن وجود الابن الكبير والمتعطل يركز لدى الأم والأب الإحساس بالفشل. ويدلف يوسف إدريس إلى خصوصية الحياة الزوجية، فتجيبه تريز لوجان بمنتهى الصراحة والوضوح، وكيف أن المرأة فى التجربة العاطفية بعد الاربعين تكون صريحة فى مشاعرها. ومثل ذلك مرفوض فى ثقافتكم العربية لانى كنت اعالج سيدة شرقية كانت تشكو هجر زوجها لها لانها كانت صريحة فى مشاعرها. وهنا تدخل فؤاد بشاى قائلا « تختلف الثقافات يا د. يوسف؛ وأنت تعلم ان المداراة والتحايل هى اساليب فى الحضارة الشرقية عكس الغرب»؛ «فيقول د. عاكف «نسوان امريكا وجههم مكشوف». ..................... ما إن ركبنا سيارة د. فؤاد لنعود إلى منزله حتى صدح صوت عبد الحليم حافظ بقارئة الفنجان؛ فراح د. يوسف يسألنى «كيف أقنعت عبد الحليم ان يروى لك ادق أسرار حياته؟» أجبت: كان له مطلب واحد ان يقرأ كل ما تنشره صباح الخير أثناء حياته. ووافقنى على الإجابة على اختبار دراسة الشخصية الذى اعدته مجموعة خبراء من علماء النفس بجامعة مينسوتا، وطورت الاختبار بحيث يروى على كل سؤال بحكاية. وكان كريما معى فترك لى حرية ما انشر بعد رحيله، وعندما قال ذلك قلت له أعوذ بالله فمن منا يعرف متى يموت. وكانت إجابته انه يعلم ان عمره لن يطول. وقررت ان تكون حياته سكينا أفتح بها قلب المجتمع. وهذا ما جرى. ..................... لم ينس يوسف إدريس ان يسألنى «لماذا لم اكن مثل ابناء جيلى او الذين يكبروننى قليلا؛ فلم اظهر فى مقهى عبد الله فى ميدان الجيزة عام 1959؟» أجبت هناك ثلاث شخصيات كنت اعرف انهم نجوم ساحرة تنجذب إليهم الشهب الصغيرة فيدور الشهاب حول النجم كثيرا إلى درجة الإنهاك؛ النجوم الثلاثة هم الاستاذ محمد حسنين هيكل والروائى نجيب محفوظ وانت، وقررت من بداياتى أن استمتع بالتعلم من إبداع كل واحد من الثلاثة الكبار وأن أحتفظ بمسافة بينى وبين كل واحد فيكم. وكان لى اساتذة أقترب منهم دون خشية الانجذاب الذى يطمس شخصية المجذوب، كان عندى فتحى غانم الروائى الرائع الراصد لعالم الصحافة وطوفان الإرهاب؛ وهنا إحسان عبد القدوس المسافر إلى دنيا الحب الممتزج بالسياسة؛ وأحمد بهاء الدين سفينة البساطة التى تمرق عباب المشكلات والقضايا دون إلغاء لرغبات حقوق الركاب. وعلت ضحكة هذا العاشق الحقيقى لإنسانية الإنسان؛ والواقف باندهاش عند عجز الإنسان عن الوصول لحريته فى كرة ارضية تبيع من المذاهب السياسية أقفاصا تحبس من يؤمن بها من قدرة التنفس خارجها، وكانت ضحكته مجلجلة تكشف خفايا دهشة عشقه للحياة وهو عشق بلا نهاية. لمزيد من مقالات منير عامر;