فى المقدمة التى كتبها الدكتور طه حسين عام 1957 لمجموعة يوسف ادريس جمهورية فرحات تنبأ عميد الأدب العربى لهذا الشاب بالنبوغ فقال: هذا كتاب ممتع أقدمه للقراء سعيدا بتقديمه أعظم السعادة وأقواها، لأن كاتبه من هؤلاء الشباب الذين تعقد بهم الآمال وتناط بهم الأمانى ليضيفوا الى رقى مصر رقيا والى ازدهار الحياة العقلية فيها ازدهارا. وكان كل شىء فى حياة هذا الشاب الأديب جديرا أن يشغله عن هذا الجهد الأدبى وأمثاله بأشياء أخرى، ليست أقل من الأدب نفعا للناس وإمتاعا للقلب والعقل. فهو قد تهيأ فى أول شبابه لدراسة الطب، ثم جد فى درسه وتحصيله حتى تخرج وأصبح طبيبا. ولكن للأدب استئثارا ببعض النفوس وسلطانا على بعض القلوب لايستطيع مقاومته والامتناع عليه إلا الأقلون. وقد كلف هذا الشاب بالقراءة، ثم أحس الرغبة فى الكتابة، فجرب نفسه فيها ألوانا من التجربة، ثم لم يملك أن يمضى فى تجاربه تلك، وإذا هو أمام كتاب يريد أن يخرج للناس فيخرجه على استحياء. ويقرأ الناس كتابه الأول «أرخص ليالى» فيرضون عنه ويستمتعون به ويقرأ الناقدون للآثار الأدبية فيعجبون له ويعجبون به. ويشجعون صاحبه على المضى فى الإنتاج، فيمضى فيه ويظهر هذا الكتاب. نعجب فيما مضى بطائفة من الكتاب المجودين فى الغرب لم يتهيأ والأدب عن عمد ولم يجعلوه لحياتهم غاية فرضا: فبرزوا فيه أى تبريز. ثم رأينا هذه الظاهرة نفسها تمس بعض أطبائنا فينشأ منهم شاعر بارع كالدكتور إبراهيم ناجى رحمه الله وينشأ منهم الكاتب المتفوق الذى يتاح له من صفاء الذوق ونفاذ البصيرة وسعة العلم والفقه بأسرار الحياة فيخرج فى اللغة العربية كتبا أقل ماتوصف به أنها تجمع بين الروعة والمتعة وتغنى حاجتنا الى القراءة التى تلذ القلب والعقل جميعا كالدكتور محمد كامل حسين. وكاتبنا هذا يمضى فى هذه الطريق ثابت الخطوة، وما أشك فى أنه سيبلغ من الاصالة والرصانة والتفوق مابلغ الذين سبقوه وهذه ظاهرة جديدة فى أدبنا العربى الحديث، إن دلت على شيء فإنما تدل على أن سلطان الأدب العربى مازال قويا، وقدرته على الاستئثار بالقلوب والنفوس مازالت نافذة وعلى أن جذوة الأدب يذكيها ويقويها أن تجاور العلم فى بعض القلوب والعقول فتستمد منه قوة وأيدا ومضاء قلما يظفر بها الذين يفرغون لتنميق الكلام ويصرفون عن حقائق العلم صرفا. وأى فنون العلم أجدر أن يفقه الناس بالحياة ومشكلاتها وماتكلف الأحياء من ألوان العناء من الطب، فالطبيب يخالط الإنسان مخالطة لاتتاح لغيره من أصحاب العلم. يخالطه صحيحا، ويخالطه عليلا ويبلو ألم جسمه وآلام نفسه أصدق البلاء وأعمقه ويفتح له ذلك أبوابا من التفكير تنتهى به أحيانا الى الفلسفة العليا، وتنتهى به أحيانا أخرى الى الأدب الرفيع الذى يحسن فيه الانسجام بين الحس الدقيق والشعور الرقيق المرهف والعقل المفكر. ويتيح له ذلك كله قدرة على التصوير الفنى لحياة الناس ومايزدحم فيها من الألم والأمل، ومن السخط والرضى، ومن الحزن والسرور، قلما يتاح لغيره من الناس. وربما منحه قدرة أخرى على فهم الملكات الإنسانية ورد أعماله ومما يختلف عليه من الأحداث ومايكون لهذه الأحداث من تأثير فيه الى أصولها ومصادرها التى انشأتها وصورتها تصويرا لايحسن فهمه إلا من يعرف دقائق النفس والجسم جميعا ومايكون بينهما من توافق أحيانا ومن تخالف أحيانا أخرى. وإذا أتيح الفن الأدبى للطبيب امتاز أدبه بالدقة والصدق وتجنب الألفاظ العامة المبهمة والعبارات التى تبهر الأسماع ولكنها لاتصل الى القلوب ولاتحصل فى العقول شيئا. وقد أتيح لكاتبنا من هذا كله الشيء الكثير فهو لايحب التزيد فى القول ولا يألف تبهرج الكلام ولن تجد عنده كلمة قلقة عن موضعها أو عبارة إلا وهى تؤدى بالضبط ما أرادها على تأديته من المعانى. هو طبيب حين يكتب يضع يده على معناه كما يضع يده على مايشخص من العلل حين يفحص مرضاه، وينقل إلينا خواطره كما يصور أوصاف العلل وكما يصف لها ماينبغى من الدواء. وله بعد ذلك خصلة تميزه من غيره من كتاب الشباب فالميل الى تصوير الحياة الاجتماعية ظاهر عند أدبائنا من الشباب، تختلف حظوظهم منه ويختلف توفيقهم فيه. ولكن كاتبنا لايميل الى تصوير الحياة الاجتماعية ومافيها من الآمال والآلام فحسب، ولكنه يحسن تصوير الجماعات ويعرض عليك صورها كأنك تراها. فلم أر تصويرا لشارع أو ميدان تختلط فيه جماعات الناس على تباين أشكالهم وأعمالهم وألوان نشاطهم كما أرى عند هذا الكاتب الشاب. ثم لايمنعه ذلك من أن يفرغ للفرد فيحسن فهمه وتصويره فى دقة نادرة، كل هذه الخصال تبشر بأن كاتبنا جدير أن يبلغ من فنه مايريد، ولكنى أتمنى عليه شيئين أحدهما ألا ينقاد للأدب ولايمكنه من أن يشغله عن الطب أو يستأثر بحياته كلها. فالأدب يجود ويرقى ويمتاز بمقدار مايجد عند الأديب من مقاومة له وامتناع على مغرياته وانصراف عنه بين حين وحين.. وما أشك فى أن عنايته بالطب حين تتصل وتقوى ستمنح أدبه غزارة الى غزارته وثروة الى ثروته وستزيد جذوته ذكاء وقوة ومضاء. والثانى أن يرفق باللغة العربية الفصحى ويبسط سلطانها شيئا ما على أشخاصه حين يقص كما يبسط سلطانها على نفسه، فهو مفصح إذا تحدث، فإذا أنطق أشخاصه أنطقهم بالعامية كما يتحدث بعضهم الى بعض فى واقع الأمر حين يلتقون ويديرون بينهم ألوان الحوار. وما أكثر مايخطئ الشباب من أدبائنا حين يظنون أن تصوير الواقع من الحياة يفرض عليهم أن ينطقوا الناس فى الكتب بما تجرى به ألسنتهم فى أحاديث الشوارع والأندية. فأخص مايمتاز به الفن الرفيع هو أنه يرقى بالواقع من الحياة درجات دون أن يقصر فى أدائه وتصويره.. والأديب الحق ليس مسجلا لكلام الناس على علاته كما يسجله الفونغراف، كما أن المصور الحق ليس مسجلا لواقع الأشياء على علاتها كما يصورها الفوتغراف، وإنما الفرق بين الأديب والمصور وبين هاتين الأداتين من أدوات التسجيل انهما يصوران الحقائق ويضيفان اليها شيئاً من ذات نفسيهما هو الذى يبلغ بها أعماق الضمائر والقلوب ويتيح لها أن تبلغ الأديب والمصور من نفوس الناس مايريدان وإلا فما يمنع الكاتب من أن يصطنع أداة من هذه الأدوات التى تسجل ألفاظ الناس ثم يضيف الى أصواتهم صوته بلغتهم التى يتكلم بها هو حين يتحدث إليهم، ثم يعرض عليهم ذلك كما يعرض تسجيل الأصوات لايتهيأ له ولا يتأنق فيه. ليصدقنى الشباب من أدبائنا أن من الحق عليهم لمواهبهم وأدبهم أن يتمنعوا فهم المذاهب الأدبية أكثر مما يفعلون .. وألا يخدعوا أنفسهم بظواهر الأشياء فيفسدوا مواهبهم ويفسدوا أدبهم أيضا.. أما بعد فانى أهنئ كاتبنا الأديب بجهده هذا الخصب وأتمنى أن أقرأ له بعد قليل كتبا أخرى ممتعه إمتاع هذين الكتابين وتمتاز عنهما مع ذلك بصفاء اللغة وإشراقها وجمالها الذى لم تبلغه العامية وما رأى أنها ستبلغه فى وقت قريب أو بعيد.