حقَّق المجتمع الدولى فى الربع الأخير من القرن الماضى طفرةً لا يُستهان بها فى تدعيم القانون الدولى كان من شأنها أنْ أعلنَ الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالى «أنَّ القانون الدولى أصبح له أنياب» أى يملك القدرة على توقيع الجزاء على من يخالف أحكامه أسوة بالنظم الوطنية. ذلك أنَّ مجلس الأمن قرر عام 1993 تأسيس محكمة جنائية دولية لملاحقة مرتكبى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بشأن ما ارتكبته حكومة يوغوسلافيا السابقة من تنكيل ومحاولة إبادة لشعب البوسنة المسلم. وقد نص النظام الأساسى للمحكمة صراحة على وجوب ملاحقة رؤساء الدول وقادة جيوشها فى المقام الأول عن جميع الأفعال المُجَرَّمة التى ترتكبها جيوشهم. وقد نجحت هذه المحكمة الجديدة فى أداء مهمتها إذ تمكنت من إدانة رئيس دولة يوغوسلافيا السابقة (الصرب حاليا) وقادة جيوشها. وقد أدى هذا النجاح إلى قناعة النظام الدولى بأنَّ الوقت قد حانَ لملاحقة مرتكبى الجرائم ضد الإنسانية التى روَّعت العالم كجريمة الإبادة الجماعية التى أوقعها النظام التركى على الأرمن فى أوائل القرن الماضي، إلى غير ذلك من المذابح المرتكبة فى أنحاء عديدة من العالم، الأمر الذى أدى إلى إنشاء محاكم أخرى فى إفريقيا وآسيا لملاحقة مرتكبى مثل هذه الجرائم التى لا تسقط بالتقادم. وقد انتهى الأمر بتأسيس محكمة جنائية دولية دائمة فى أوائل هذا القرن يشمل اختصاصها كل دول العالم. وقد تمكنت هذه المحكمة من ملاحقة رؤساء وقادة دول عديدة وإدانتهم. غير أنَّها ظلت عاجزة عن ملاحقة مرتكبى المذابح ومختلف الجرائم ضد الإنسانية بالدول الكبرى والدول التى تدور فى فلكها، قاصرةً اهتمامها على تلك التى تقع فى دول لا تملك أسباب القوة نفسها، والأمثلة على ذلك عديدة وعلى رأسها عدم إمكان محاكمة مرتكبى المذابح ضد الشعب العربى بفلسطين من قادة دولة إسرائيل منذ نشأتها، وتلك التى تمَّ ارتكابها ضد شعب العراق من قِبل قوات الاحتلال الأنجلو أمريكي. ومن ثمَّ فمن الجلى عدم إمكان طرح أمر العدوان الثلاثى ضد الشعب السورى على أى قضاء دولى سواء أكانت محكمة جنائية مؤقتة مؤسسة لهذا الغرض أم المحكمة الجنائية الدولية الدائمة. وإزاء عجز القضاء الدولى المؤسَّس من قِبَل النظام الدولى بشكل رسمى عن ملاحقة مرتكبى جرائم الحرب من هذه الدول الكبري، فإنَّه يحق التساؤل عمَّا يستطيع المجتمع الدولى المدنى الذى يضم شعوب العالم القيام به لسد الفراغ الناجم عن هذا العجز. وقد تفتق ذهن بعض كبار العلماء والمفكرين فى العالم وعلى رأسهم العالم برتراند راسل والعالم آينشتاين والمفكر الفرنسى سارتر فى النصف الأخير من القرن العشرين عن وسيلة للتعبير عن رفض البشرية جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وذلك بتنظيم ما يمكن تسميته المحاكمات الدولية الشعبية. ويتمثلُ ذلك فى تأسيس محكمة تضم فريقًا يتم اختياره من بين رجال القضاء الدوليين للنظر فى الجرائم الدولية التى عجز القضاء الدولى الرسمى عن النظر فيها. وتستطيع هذه المحاكم ملاحقة أى مرتكب لهذه الجرائم مهما يكن منصبه الحالى أو السابق وذلك وفقًا لمبادئ قانونية مستقرة فى القانون الدولى والمواثيق الدولية. ورغم أنّ هذه المحاكم لا تملك فرض عقوبات محددة مقتصرة على إصدار الحكم بالإدانة، فإنَّها تحمل وزنًا لا يُستهان به فى المجتمع الدولى إذ هى تُعبِر عن الضمير العالمى الذى حالت القوى الكبرى دون السماح له بالتعبير عن نفسه. هذا فضلا عن أنّ هذه الأحكام تشكلُ تسجيلا تاريخيًا أساسيا يحفظ الأدلة على ما تم من جرائم قبل أن تندثر بمرور الزمن، الأمر الذى يسمح بإمكان محاكمة مرتكبى هذه الأفعال أمام القضاء الدولى الرسمى فى أى وقت فى المستقبل إذ إنَّها لا تسقط بالتقادم. وقد تم تشكيل محاكم دولية شعبية عديدة للنظر فى الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب لعل من أهمها تلك التى قامت بمحاكمة الرئيس الأمريكى الأسبق نيكسون بشأن الجرائم التى ارتكبها الجيش الأمريكى ضد شعب فيتنام، وقامت بإصدار الحكم بإدانته بوصفه الرئيس المسئول عن أفعال جيشه. لكن من الملاحظ عدم مد هذه المحاكم اختصاصها لتشمل جرائم ضد شعوب أخرى كتلك المرتكبة ضد الشعب العربى فى فلسطين. وقد دفع ذلك اتحاد المحامين العرب فى فبراير من عام 2006 بمشاركة العديد من نقابات دول عربية منها مصر بتشكيل محكمة دولية شعبية برئاسة السيد مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا الأسبق ومجموعة من رجال القضاء الدوليين كان لى شرف مشاركتهم وذلك لمحاكمة رئيس وزراء إسرائيل الأسبق شارون عمَّا ارتكبه جنوده من جرائم ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطينى خلال رئاسته. وانتهت بإدانته بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. وقد كان لهذا الحكم الفضلُ فى الكشف عن حقائق خطيرة حرصت إسرائيل على إخفائها أو قلبها، كما كان له الفضل فى قيام المجلس الدولى لحقوق الإنسان بتشكيل لجنة تحقيق برئاسة القاضى الدولى المعروف جولدستون التى نظرت فى الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطينى فى غزة وأدانت مرتكبيها بارتكاب جرائم الإبادة. ويُلحّ التساؤل اليوم عمَّا يجب أن يتخذه النظام العالمى الدولى من إجراء قانونى لمحاسبة مرتكبى العدوان الثلاثى الأخير على شعب سوريا. ولعل السياق العام لعلاقات القوى الدولية لن يبيح مساءلة مرتكبى هذا العدوان أمام محكمة دولية رسمية، كما هو الحال بشأن الجرائم البشعة المرتكبة ضد الشعب العراقى على يد جيوش الدول المغيرة فى 2003. ومن ثمَّ يتعين أن يبادر المجتمع العربى بأسره بالدعوة لإنشاء محكمة دولية شعبية تضمُ خيرةَ القضاة الدوليين لبحث ما انطوى عليه هذا الاعتداء من جريمة حرب، كما يتعيَّن المبادرة بجمع كل الأدلة اللازمة لتوثيق هذه المحاكمة، أسوة بتلك التى سبق أنْ نادينا بتشكيلها للنظر فى الجرائم المرتكبة ضد شعب العراق قبل ضياع الأدلة المُدينة لمرتكبيها. إنَّ رد الفعل الذى يملكه المجتمع الدولى المدنى إزاء خرق النظام الدولى السياسى للقانون الدولى وحقوق الشعوب، قد يكمن فى تشكيل قضاء دولى شعبى يُعبر عن الضمير العالمى ويلاحق كل من تُسَّوِل له نفسه بارتكاب مثل هذه الجرائم. لمزيد من مقالات ◀ د. فؤاد عبد المنعم رياض