السلب لغة هو ما يؤخذ قهرا، كأن يقال: سلب القتيل وما معه من ثياب وسلاحٍ ودابَّة. وفى الاصطلاح الصوفى، فالسلب كرامة للشيخ المربى، وعقوبة للمريد المتمرد أو عالم الظاهر المنكر. ................................... والمقصود به محو كل ما يحتويه ذهن المعاقب من علم، سواء أكان دنيويا كالحساب والهندسة والكيمياء والشعر والنثر، أم دينيا كالقرآن والفقه والحديث والفروض، وكأنهم عرفوا منذ ذلك الوقت المبكر فكرة حذف المعلومات من ذاكرة الكمبيوتر!! وقد وردت فى كتب الطبقات والكرامات قصص عجيبة، تصف هؤلاء المسلوبين وحزنهم، وكيف عانوا إلى درجة عجزوا فيها عن تأدية الصلاة، فلزموا بيوتهم وأرسلوا إلى شيوخهم ضارعين تائبين حتى عفوا عنهم، وأعادوا إليهم أحوالهم وعوائدهم. ومن أصحاب المصادر التى عنيت بحكايات السلب والمسلوبين، أبوعبد الرحمن السلمى صاحب طبقات الصوفية وكذلك المناوئ والدباغ وأبو نعيم فى الحلية والشعرانى، ويعتبر الأخير أغزرهم مادة وأشدهم إيمانا بتلك العقوبة وتأييدا لها كنوع من أنواع مقاومة الشطط وتأديب من أغواه الشيطان فتحدى شيخه وهو الذى يجب أن يكون بين يديه «كالميت بين يدى غاسله»، وفى جرأة شديدة أقام دولة افتراضية يحكمها المشايخ بعيدا تماما عن الحكم الزمنى للسلطة القائمة، بل إن السلطان المملوكى لم يكن يستنكف من تقبيل يد الصوفي! فى دولة المشايخ تتوزع المهام فثمة الأقطاب والأبدال والنقباء والنجباء وأصحاب النوبة وأرباب الأحوال! ويسهب الشعرانى فى الحديث عن أرباب الأحوال حيث شاع المصطلح فى آخر العصر المملوكى. يقول الشعرانى إنهم:»أعطوا فى الدنيا التقديم والتأخير والولاية والعزل والقهر بما لهم من دلال على الله». ويقول الدشطوطي:»أرباب الأحوال مع الله كحالهم قبل خلق الخلق وإنزال الشرائع». واحتج ابن الحاج على مدّعى ذلك من الصوفية المنحرفين:»ثم أنهم يولون ويعزلون فى تلك الأحوال ويخبرون بمنازل أصحابهم.. ولا شك أنها أحوال نفسانية أو شيطانية لأن الفتح من الله لا يكون مع ارتكاب المكروهات أو المحرمات»، أما المرسى فيعلل تميزهم هذا بضعفهم عن كتم أحوالهم وضيقهم عن وسعها وبالغ بعضهم فى ادعاءاته. ويقول المتبولي:»..وعزة ربى لتتوزع أحوالى بعدى على سبعين رجلا ًولا يحملون»، أى لن يستطيعوا تحمل الحملات مثله. ولم يكن غريبا أن يخاف العلماء فى ذلك العصر من تهديد الصوفية لهم بسلب العلم والقرآن، أى سلب ما لديهم من الحفظ، الذى هو كل محصولهم العلمى، مما يعد دليلا على ضعف الشخصية العلمية وهبوطها العقلى الذى يعتمد أولا وأخيرا على مجرد الحفظ، ويعتقد فى قدرة الكرامات الصوفية على محو ذاكرتهم وما يحفظونه، فتخشاهم إبقاء عليها. وترددت كرامات فى تخويف أولئك العلماء بسلب ما يحفظون، وكان لها أبلغ الأثر فى تدعيم سٌلطة الصوفية من ناحية، وفى هبوط المستوى العقلى والعلمى من ناحية أوحتى يرهب الشعرانى الفقهاء فى عصره من الاعترا ض على الأولياء الصوفية مدمنى الحشيش فقد هددهم بسلب العلم والشعرانى روى هذه الحكاية فى كتابه الضخم «لواقح الأنوار فى طبقات الأخيار» المعروف شعبيا باسم «الطبقات الكبرى»، يقول: «روى عن شيخ الإسلام صالح البلقينى أن والده الشيخ سراج الدين مر بباب اللوق فوجد هناك زحمة، فسأل عنها، فقالوا: شخص من أولياء الله يبيع الحشيش، فقال لو خرج الدَجال حينئذ فى مصر لاعتقدوه من شدة جهلهم، كيف يكون شخص حشاش من أولياء الله، إنما هو من الحرافيش». فسلب الشيخ جميع مامعه حتى الفاتحة، فتنكرت عليه أحواله، وصارت الفتاوى تأتى إليه فلا يعرف شيئا، ونسى ما قال فى حق الحشاش، فمكث كذلك فى مدرسته بحارة بهاء الدين ثلاثة أيام، فدخل عليه فقير فشكا إليه حاله، فقال:»هذا من الحشاش الذى أنكرت عليه، فإن الفقراء أجلسوه هناك يتوب الناس عن أكل الحشيش، فلا يأخذها أحد من يده ويعود إلى أكلها أبدا حتى يموت، فأرسل إليه يرد عليك حالك، فأرسل إليه فبمجرد ماأقبل الرسول أنشده الشيخ شعرا، وقال لو كنا عصاة نبيع الحشيش ما أقدرنا الله على سلب شيخ الإسلام، ثم قال له سلم على شيخ الإسلام، وقل له أعمل أربعة خراف معاليف شواء وأربعمائة رغيف وتعال اجلس عندى، وكل من بعته قطعة حشيش زن له رطلا وأعطه رغيفا، فشق ذلك على شيخ الإسلام، فما زال به أصحابه، حتى فعل ذلك، وصار يزن لكل واحد الرطل ويعطيه الرغيف والشيخ يبتسم، ويقول نحن نحليهم فى الباطن وأنت تحليهم فى الظاهر، إلى أن فرغ الخرفان، ثم قال له اذهب إلى الديك الذى فوق سطح مدرستك فاذبحه وكل قلبه يرد عليك علمك، فبالله عليك كيف تتكبر على المسلمين بعلم حمله الديك فى قلبه، فمن ذلك اليوم ما أنكر الشيخ البلقينى على أحد من أرباب الأحوال!. ويستفيض الشعرانى فى ذكر قصة أخرى من قصص السلب العجيبة مما يؤكد ولعه بهذا الأمر، وبطلنا هذه المرة هو الشيخ الفقيه «محمد بن هارون» نزيل قرية سنهور من أعمال دسوق، وكالعادة كان غريمه الذى عاقبه ومسح ذهنه هو أحد الأقطاب المختفين وسط الدهماء. يقول الشعراني: حكى لى سيدى «على الخواص» رضى الله تعالى عنه، أن سيدى الشيخ «محمد بن هارون سلبه» حاله صبى القراد، صبى الرجل الذى يطوف بالقرد فى البلاد، يعرض ألعابه نظير نقود أو حبوب أو خبز أو بيض». وذلك أنه كان إذا خرج من صلاة الجمعة تبعه أهل القرية يشيعونه إلى داره «تبجيلا لعلمه»، فمر بصبى القراد وهو جالس تحت حائطه يفلى خلقته من القمل وهو ماد رجليه، فخطر فى قلب الشيخ أن هذا قليل الأدب يمد رجليه ومثلى مار عليه؟. فسُلب لوقته وفرت الناس عنه، فرجع فلم يجد الصبى فدار عليه فى البلاد إلى أن وجده فى رميلة مصر. فلما نظر القراد الكبير إليه وهو واقف وقد فرغوا، قال لصبيه: لقد جاء غريمك يا قزمان من سنهور. واتجه إليه وقال: «تعال يا سيدى الشيخ، مثلك يخطر فى خاطره أن له مقاما أو قدرا، فهذا الصبى سلبك حالك فله أن يمدد رجليه لحضرتك لكونه أقرب إلى الله منك». فقال ابن هارون: «التوبة». فأرسله إلى سنهور إلى الحائط الذى كان يفلى ثوبه عنده وقال له: «ناد السحلية التى هناك فى الشق وقل يا أم عطية إن قزمان طاب خاطره على فردى على حالى». فخرجت ونفخت فى وجهه فرد الله عليه حاله، «رضى الله عنه».