تستيقظ في الصباح لتعانق نور الشمس بعد عتمة ليل سرمدي طويل ثم تتحسس هاتفك الذي أصبح نافذة على العالم ، وحين تضغط على المربع الأزرق الذي يرمز لموقع التواصل الأشهر «الفيس بوك» فإذا بك تجده تحول لسرادق يخيمه حزن الرحيل ولوعة الفقد وقد يصادفك الحظ الأسود فتطول تلك الحالة لمرحلة تفقدك القدرة على القيام من فراشك من فرط الآسى ! ولكن ما لفت الإنتباه مؤخرا أن هناك الكثير من الأصدقاء الإفتراضيين الذين لم يلتقوا يوما ما وجها لوجه مكتفين بوجه الفيس بوك وارتبطوا إلكترونيا بشكل أقوى من الواقعي فهم يتابعون منشورات بعضهم البعض يوميا ويتفاعلون معها حتى أصبح كل شخص جزء من نسيج حياة الآخر جعله يفتقده ان غاب وحين شعر مارك زوكربرج – مؤسس الفيس بوك - بتلك المشاعر الإنسانية سارع بإضافة تفاعلات جديدة للتواصل ك «السلام أو الغمزة أو الحضن « !! وفي الواقع قد لا نجد مثل تلك المشاعر الرقمية مع من حولنا ، وفجأة نفتح حسابنا لنتابع هؤلاء فنجد أن أحدهم قد توفاه الله وتحول حائط حسابه الخاص الى نعي في صفحة الوفيات .. ليس هذا فحسب ، فقد يتفاقم الأمر لدى البعض الى حدود الهذيان فيرثي صديقه بكلمات مشبعة بعطور الذكريات الجميلة بشكل يقسم عليك بالبكاء فتتسابق دموعك نحو لوحة المفاتيح «الكيبورد» أسرع من أناملك ! ربما كان كل هذا حالة إنسانية محمودة ولكن الغريب أن نفس هؤلاء الأشخاص لا يملكون حفنة ضئيلة من الحزن في سرادق العزاء الفعلي فتجد النساء يدخلن الى السرادق ومازالت خصلات شعورهن ساخنة و»طازة» بنار الكوافير مرتديات أغلى قطع مجوهرات وغالبا ألماس وتتقاسمن المجلس في مجموعات ويبدأ الحديث في الإنطلاق الا من رحم ربي ! بينما يرتدي السادة الرجال البدل الشيك ورابطات العنق السوداء ويقفون صفا واحدا بشكل أقرب لإستقبال رؤساء الدول وكأنهم خريجي كلية الرسم والفنون الدبلوماسية وياحبذا لو كان المتوفي من نجوم المجتمع أو المشاهير تجدهم يتسابقون لترصدهم أعين الكاميرات أو ليلتقوا مع أحد الكبار أو ليعقدوا بعض الصفقات على الماشي ! وهنا أعترف أن الحقيقة قد تاهت مني فلم أعد أعرف أي العالمين واقعي إنساني وأيهما إفتراضي رقمي .. الا أن الحتمية الوحيدة أننا كل يوم نستقبل شمسا جديدة ونودع روحا أخرى ، فصاحب هذا الحساب كان ضاحكا بالأمس وهو ينشر البهجة والصباحات السعيدة على موقع التواصل وكان متصلا على غرف الإنبوكس منذ كم ساعة ثم تجد من يكتب على صفحته «أدعوا له بالرحمة « فهل صرنا كبار بما يكفي لتحمل كل هذا الوجع أم أن نسبة من يرحلون تتزايد ؟ أو ربما هذا من ارهاصات التكنولوجيا التى سمحت لنا أن نعرف أخبار الموت والرحيل بشكل مجاني بعيدا عن ارتفاع اسعار النعي بالصحف وضيق المساحة ؟ والأكثر إيلاما أن تنتحر الإنسانية لدي البعض فيغرقون في التمثيل بأرواح من رحلوا ويصنفونهم وفقا لمعتقداتهم، فهذا فلول وذاك إخوان وتلك ناشطة وهؤلاء فسدة وهلم جرة وكأن الحياة باقية لهم الى يوم القيامة ! والحق هو أننا جميعا قيد الإنتظار كل في دوره المكتوب له وكان الأجدى بكم أن تتعظوا وتفيقوا بدلا عن هذا الهراء الذي يعبث بجثث الموتى دون مراعاة لحرمة الأرواح . والحق أيضا أنهم لو خيروني بين العزاء في السرادق والعزاء الإلكتروني لأخترت الأخير من فرط التزييف والمظاهر والشو في الأول الذي قد ينسي غالبية الحضور قراءة الفاتحة على روح المرحوم ! فهل فقد الحزن معناه كما فقدت الكثير من القيم والمفردات معانيها .. أم أن مشاعرنا تحولت الى الرقمية البحتة ؟ [email protected]