زكى نجيب محمود حرضنى على ترجمة كتاب لبرتراند رسل قلدت أمير الشعراء فى اختلاق حبيبة تحمل اسم ليلى أشكو لها وحدتى العلاقات بين الشرق والغرب موضوع معقد.. وابن رشد وضع القاعدة فى التعامل منذ زمن طويل
فى رحلة تفتح الوعى فى حياة الإنسان، تبدو الكتب كواحات ذات ربوة وقرار، ونجوما تضيء أفق العقل الإنسانى وتزين سماءه وبها يهتدى فى ظلمات الجهل والغفلة ويبقى سحر التجربة الأولى مع أول كتاب بدأت عالقة فى الذكريات لا تنطفئ مهما قرأ الإنسان من كتب أو بلغ من ثقافة. الناقد والمفكر الدكتور عبد الرشيد محمودى يتميز بثقافة موسوعية لعل أهم وافدها هو إتقانه لعدة لغات وعمله سابقا فى منظمة اليونسكو فى باريس، بالإضافة إلى دراسته للفلسفة فى القاهرة ولندن. وهو كاتب متعدد الاهتمامات، فقد أصدر العديد من الكتب فى مجالات مختلفة من الفكر والنقد والقصة والرواية. .................................... نبدأ دائما بالكتاب الأول فى حياتك والذى جذبك نحو عالم الثقافة وجعلك تحب القراءة أو كان فاصلا فى حياتك. كان من حسن حظى أننى أتيح لى أن أقرأ كتبا متنوعة وأنا ما زلت فى المدرسة الابتدائية. يصدق هذا على بعض كتب الأدب القديم، مثل كتاب «البخلاء» للجاحظ وديوان عمر بن أبى ربيعة، وبعض الكتاب المحدثين فى ذلك الوقت، مثل طه حسين فى»الأيام» وزكى مبارك فى أحاديثه ذات الشجون التى كانت تنشر كل ثلاثاء فى جريدة «البلاغ» المسائية. وقد تأثرت بكل هذه الكتابات وبغيرها من الكتب المترجمة. أما الكتاب الأول الذى كان له دور حاسم فى حياتى ككاتب، فكان مسرحية شوقى «مجنون ليلى». فقد حفزتنى هذه المسرحية لكتابة يوميات على شكل أحاديث موجهة إلى حبيبة خيالية اسمها ليلى، وكنت أشكو فيها لليلاى شعورى بالوحدة. وربما كان اكتشاف الطفل الذى كنته لذلك السر ولضرورة التعبير عنه بالكتابة هو بداية الطريق لظهور الكاتب. من الملاحظ أن لك كتابا ألفته بالانجليزية بجانب كتبك الصادرة بالعربية، وبالإضافة إلى كتب ترجمتها من لغات أخرى، فلماذا لجأت إلى الكتابة بغير العربية؟ ولماذا ركزت أخيرا على الكتابة بالعربية؟ هل وجدت ما كتبت باللغات الأخرى غير مناسب للمثقف الذى لا يقرأ بغير العربية؟ الكتاب الذى ألفته بالانجليزية كان فى الأصل رسالة دكتوراة مقدمة لجامعة مانشستر عن تعليم طه حسين من الأزهر إلى السوربون. وقد كتبته لذلك الغرض، ثم ساعدنى أحد أعضاء لجنة الممتحنين على نشره. وكانت لى تجارب أخرى فى الكتابة بالانجليزية، وهى تجارب أقدمت عليها لأننى وجدت ذات يوم أن هذه اللغة تسرى فى دمى. وقد تعرضت أيضا لغواية الفرنسية عندما عشت فى باريس. وما زلت حتى اليوم أشعر أن لى صلة قربى بالألمانية التى تعلمت مبادئها فى مصر. إلا أننى انصرفت عن تلك الإغراءات نظرا لالتزامى وهو التزام أعمق بخدمة اللغة العربية. أما فيما يتعلق بالترجمة عن اللغات الأجنبية، فقد فرضت على. كانت فى البداية طريقة لكسب الرزق، ثم حرضنى المرحوم زكى نجيب محمود على ترجمة كتاب لبرتراند رسل. وعندما انتهيت من ترجمة هذا الكتاب، دعوت الله ألا يقضى عليّ بأن أكون مترجما. ولكن يبدو أنه قضى عليّ بذلك. كان لعميد الأدب العربى طه حسين مكانة مميزة واهتمام ملحوظ لديك، وواضح هذا فى أكثر من كتاب لك عنه. هل يمكن أن تبين لنا سبب اهتمامك به؟. كان لطه حسين مكانة مميزة عندى مثلى مثل غيرى من أبناء جيلى، منذ قرأناه فى سن مبكرة، وتأثرنا بسيرته الذاتيه كما كتبها فى «الأيام». وطه حسين هو الذى علمنا حب العربية وحب الأدب العربى، وحب الأدب باختصار بأى لغة كان. طه حسين هو الذى أنشأ المثل الأعلى لمخلوق خاص اسمه «الأديب». أما التزامى بالكتابة عن طه حسين، فكان الدافع إليه رغبتى وأنا فى الخارج أن أعود إلى الواقع المصرى وأن أكتب عنه. ولكن كيف يمكن ذلك لشخص غاب عن البلاد طويلا؟ ورأيت أن من المحال أن أكون على ألفة بالواقع المصرى مثل نجيب محفوظ أو يوسف إدريس أو غيرهما من شباب الكتاب المصريين. ولذلك قررت أن أبدأ بطه حسين، فربما صارت الكتابة عنه تمهيدا للاتصال المباشر بالواقع المصرى. كانت تلك هى بداية اهتمامى بطه حسين، ثم استمر هذا الاهتمام لأن من عيوبى أننى لا أقنع بأنصاف الحلول، وأريد أن أقطع الشوط إلى أقصى مداه. وقد انتهيت بعد كل ذلك إلى نتيجة مؤداها أن الواقع هو ما أعرفه. والواقع الذى أعرفه ليس هو الواقع المصرى ببساطة، ولكنه واقع إنسان يعيش بين عالمين: عالم مصرى وعالم غربى. مع ذلك وجدناك فى كتابك الذى حمل عنوان «طه حسين بين السياج والمرايا» توجه انتقادا حادا إلى كتاب «فى الشعر الجاهلى» وتقرر فيه أن طه حسين لم يستخدم منهج الشك الديكارتى بالرغم من أنه صرح بذلك نصا فى مقدمة الكتاب الذى بسببه نال هذا الكتاب مكانة كبرى حتى ظنه البعض ثورة ديكارتية فى مسيرة الثقافة العربية. اهتمامى بطه حسين لا يعنى بالضرورة أننى اتفق معه دائما. ولقد اختلفت معه فى عدة أمور، ومن بينها قضية الشعر الجاهلى. كان يحق له فى رأيى أن يتشكك فى بعض هذا الشعر - وهذا ما فعله بعض النقاد العرب القدامى - ولكن لم يكن من حقه أن يتشكك فى الأكثرية المطلقة منه. أما فيما يتعلق بالشك الديكارتى، فرأيى هو أن تأثير هذا الشك على مؤلف كتاب «فى الشعر الجاهلى» كان ثانويا وعلى نحو غير مباشر. أما المؤثرات الرئيسية والمباشرة فينبغى البحث عنها فى مصادر أخرى عديدة بينتها بالتفصيل فى كتابات مختلفة عن الموضوع. بالمناسبة هل ترى ثنائية الشرق والغرب مازالت قوية على المستويات الثقافية والفكرية بالرغم من «استفحال» دعاوى العولمة وتقارب الثقافات؟ أعتقد أن العلاقات بين الشرق والغرب موضوع معقد ولا ينبغى تبسيطه. فالتقارب بين الثقافات لا يعنى بالضرورة أن ثمة توافقا تاما بينها. والأصح أن يقال إنها تتشابك فى ظل العولمة أو بصرف النظر عنها. ونحن نتشابك مع الغرب بحكم التاريخ والجغرافيا. ولكن هذا التشابك لا يخلو فى رأيى من عناصر التباين والنزاع فى بعض الأحيان. وإذا حصرنا الموضوع فى نطاق العلاقات بين الثقافة المصرية العربية وبين الثقافة أو الثقافات الغربية، فأعتقد أننا لا بد وينبغى أن نتداخل مع تلك الثقافات الأخرى، وأن نتنازع معها إذا اقتضى الأمر ذلك. وتلك هى الطريقة الوحيدة لكى يكون التفاعل مثمرا. فلديهم ما نفيد منه، ولدينا ما نسهم به. وقد وضع ابن رشد القاعدة منذ زمن طويل. كان يؤمن عن وجه حق بأن العلم لا وطن له، ويرى ضرورة الاستعانة بالغير، «فإن كان كله صوابا قبلناه منهم وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه». الوسائط الإلكترونية لها أثيراتها الخطيرة على المتابع، فإلى أى حد لهوية الثقافة العربية يمكن أن تتماسك أمام هذا الزخم الإلكترونى خاصة فيما يعانيه هنا من تسطيح والانزلاق بعيدا عن القضايا الحقيقية للمثقف العربي؟. ما تصفه بالزخم الإلكترونى وما يترتب عليه من مخاطر أمور تتعرض لها جميع الثقافات شرقية كانت أم غربية. وهى مشكلة ينبغى أن تواجه فى جميع البلدان وعلى جميع المستويات. وفيما يتعلق بنا بصفة خاصة، فأعتقد أننا لا نستطيع إلا أن نشارك فى الثورة الإلكترونية وأن نسهم فيها، ولكن ينبغى أن يقترن هذا الموقف الإيجابى بإجراء الإصلاحات اللازمة لمقاومة التسطيح والابتعاد عن الينابيع الثقافية. وأهم هذه الإصلاحات ما ينبغى أن يجرى فى مجال التعليم، وفى مجال التربية الأسرية. وينبغى لتحقيق ذلك وضع استراتيجية سياسية عليا. أرى توليفة الناقد مع المفكر مع الروائى التى تحققت فى قلمك يمكن أن تشجعنى على أن أطرح عليك قلقى من علو مكانة الرواية فى الوقت الراهن تأليفا وقراءة لاسيما بين جمهور الشباب، فكأنى أراها هروبا إلى وقائع خيالية يتماشى مع الهروب اليومى الذى تمارسه الجماهير فى الواقع الافتراضى الإلكترونى على مواقع التواصل الاجتماعى على شبكة الإنترنت. أعتقد أنك محق فى هذا القلق. فالروايات تلقى رواجا كبيرا بين الشباب. وهذا أمر طبيعى إلى حد ما لأن قراءة هذه الأعمال سهلة وممتعة. ولكن يبدو أن الإقبال المفرط على هذا النوع من القراءة أصبح يمثل نوعا من الهروب، الهروب من الواقع والهروب من مواجهة الأنواع الأدبية الأخرى. وهو اتجاه تغذيه وتعززه وسائل الإعلام على صعيد العالم بحيث أصبحت المشكلة عالمية النطاق. وما نستطيع نحن عمله فى نطاق بلادنا هو إصلاح نظام التعليم بحيث تتسع المناهج لجميع الوسائل المعرفية، بما فى ذلك الإنترنت على سبيل المثال والكتب الورقية. وأنا شخصيا لا أجد تضاربا بين الجانبين إذا أحسن استخدامهما.بل اننى وجدت فى الكمبيوتر وفى الإنترنت وسائل رائعة للبحث والتأليف. وكل شيء يتوقف إذن على قدرة الإنسان على تسخير كل تلك المصادر بطريقة هادفة. اهتمامك بالكتابة فى الصحف والمجلات الورقية هل هو اطمئنان إلى أن تأثر الصحافة الورقية السلبى بالمواقع الإلكترونية هو تأثر مؤقت وأن القوة مازالت باقية فى الثقافة الورقية؟. أنا بالفعل أفضل النشر فى الوسائل الورقية. فأنا أحب الكتب (الورقية) ولا آنس إلى ما يسمى الكتب المتاحة «على الخط» أو الكتب السمعية. ومن الواضح أن سبب ذلك هو أننى من جيل سابق على كل تلك المستحدثات. ومع ذلك فإننى أحب وأجيد استخدام الكمبيوتر لأغراضى الخاصة (الترجمة والتأليف) واللجوء إلى الإنترنت بحثا عن مصادر المعرفة. ولا أرضى لنفسى أن أتخلف عن ركب المستحدثات. وبفضل هذه الوسائل المستحدثة بالإضافة إلى مكتبتى الخاصة أستطيع الاستغناء عن زيارة المكتبات العامة، وأن أمارس كل ما يتعلق بأنشطة الاطلاع والتأليف فى بيتى، وأن أجد كل المصادر فى متناول يدى. فيا لها من سعادة!