لم أكن أعرفه ولكني سمعت عنه يوم عرض فيلم «لا وقت للحبس» المأخوذ عن قصة ليوسف إدريس. قيل لي إن «حمزة» بطل القصة الذي مثله الفنان رشدي أباظة شخص حقيقي يعيش وسطنا ولكن في الاسكندرية، وأنه أحد النشطاء اليساريين الذين شاركوا في تنظيم مظاهرات 24مارس عام 1946 وهي المظاهرات التي كانت الرد السكندري المباشر علي استشهاد الطلبة الجامعيين في مظاهرات 21 من الشهر نفسه في القاهرة. ثم نسيت «حمزة» والموضوع كله إلي أن بدأت أتابع تطبيق نظام التأمين الصحي في الإسكندريه علي يد الدكتور محمد نصار وزير الصحة الأسبق والذي أسند إليه جمال عبد الناصر عملية التخطيط الصحي في مصر. فهو أي د. محمد نصار كان ضابطا طبيبا في القوات المسلحة المصرية وهو الذي وضع مشروع الوحدات المجمعة الريفية التي ضمت المدرسة والعيادة والإرشاد الزراعي والخدمة الاجتماعية ومقار التعاونيات الزراعية كما كانت، بعد عام 1960، المكان المفضل للريفيين لأنها ضمت اول جهاز تليفزيون في القرية. ثم ترك الدكتور محمد نصار الوزارة وأسند إليه تنفيذ مشروع التأمين الصحي في الإسكندريه . . كبداية لانتقال التجربة إلي باقي المحافظات. يومها قيل لي «عايزة تعرفي كل شيء عن التأمين الصحي في الاسكندرية روحي للدكتور حمزة البسيوني حتلاقي الحقيقة كاملة. فقفز إلي ذاكرتي «حمزة» بطل الفيلم الشهير. فكان لقائي الاول معه. وجدته انسانا بسيطا متواضعا يتعاون بشكل كلي وبشفافية مع الدكتور محمد نصار. كان مؤمنا بأن نظام التأمين الصحي هو الحل لكل مشكلات مصر الصحية وانه الانسب للطرفين، طرف المواطن الذي لابد من حصوله علي افضل خدمة، ومن جانب الحكومة للوصول إلي الإنفاق المعقول لبلد نام. امام د. حمزة البسيوني جلست امام قضية سياسية من الدرجة الأولي وليست قضية صحية. هكذا شرحها لي كأي يساري. كان يرفع شعار مع التأمين الصحي، مع إجابياته وضد سلبياته. كان يشرح بعين ناقدة ده ماشي وده عايز مراجعة ثم اخذني في جولة في العيادات والمستشفيات فوجدت نظاما ونظافة واناسا يتعاملون بشكل حضاري وجيلا جديدا الاطباء والممرضين. راجع معي الحسابات وتركني اعبث مع المرضي بمفردي. بعد ذلك، صرنا اصدقاء أتجه اليه في قضايا التأمين الصحي أو كلما كنت في الإسكندرية. ثم التقينا في حزب التجمع عند تأسيسه وعرفته اكثر واكثر.في انشطة حزب التجمع «فرع الإسكندرية» كان له مكانة خاصة وتحديدا وسط تلك المجموعة التي كانت في السابق منظمة في تنظيمات ماركسية. فبالرغم من الاختلافات الفكرية بينهم كانوا يحترمونه جميعا. قالوا عنه، إن سجن أو معتقل المحاريق في الخارجة عاصمة الوادي الجديد، ضم عددا من الاطباء وطلبة كليات الطب اليساريين، ولكن من بينهم كان د. حمزة البسيوني من اكثرهم دنوا من جميع المرضي بغض النظر عن الاختلاف الفكري. كما انه قام بعلاج ابني مأمور السجن. وانقذهما من الموت بالرغم من غلاظة «وجبروت» معاملة المأمور اليومية للسجناء والمعتقلين. فمعاملة المأمور شيء والعمل المهني الإنساني شيء آخر. خاصة أن علاقة إدارة المعتقل مع المسجونين والمعتقلين باتت بعد، هذا التدخل المهني الإنساني، أكثر رحابة والتزاما باللائحة والقانون. اشاروا اليه، أي الدكتور حمزة، علي انه كان انسانا قبل ان يكون طبيبا او سياسيا. من مواليد محافظة الدقهلية وانتقل إلي الاسكندرية لدراسة الطب في جامعتها حيث استقر. لم يسجن طوال حياته بسبب حكم قضائي، وإنما كان دائما يوضع اسمه في خانة المعتقلين سواء في العهد الملكي او الجمهوري. استطاع الهرب من القوات الانجليزية بعد مظاهرات عام 1946 ولكنه لم يستطع الهرب من جنود الجمهورية. في إحدي مرات اعتقاله في سجن «ابو زعبل» عام 1954 زامل الدكتور يوسف إدريس وروي له قصة ارتباطه العاطفي عام 1946 والدور الذي لعبته زميلته لتوفير سبل هروبه. وهي القصة التي وضعها يوسف إدريس في صياغاته الادبية الراقية. ثم وبعد ذلك تم اعتقاله في أول يناير 1959 ولم يغادر المعتقل إلا في4 أبريل عام 1964، مع آخر دفعة إفراج. فاتجه إلي الاسكندرية حيث كانت بداية تجربة التأمين الصحي فلحق بها دون تردد وساندها وبات احد الدعاة الاساسيين لها. وعند لقائي به عام 1977 في المؤتمر التأسيسي لحزب التجمع كانت التجربة قد تم تصفيتها لأنها لم تعد ملائمة للسياسات الانفتاحية الجديدة. كان من المهم لدي ان اعرف مصير اثنين من المنفذين للتجربة، دكتور محمد نصار والدكتور حمزة البسيوني. كان الثاني قد تزوج من استاذة جامعية وانجب ابنين واستمر يقدم خدمته الانسانية للفقراء. لذلك أطلق عليه اصدقاؤه لقب «طبيب الفقراء» الذي توفي في الشهر الماضي عن 90 عاما في أحد المستشفيات التي كان يعمل بها في اطار تجربة التأمين الصحي. ولكن، في إطار الظروف الحالية، اضطر ابناؤه لدفع مائة ألف جنيه لعلاجه في العناية المركزة. اما الدكتور محمد نصار الضابط والطبيب المتواضع والشديد الشفافية فقد كان له طريقه الخاص ولكن المدهش. بعد تصفية تجربة التأمين الصحي في السبعينيات ترك الدكتور منصبه حاملا لقب الوزير الأسبق دون الاشارة إلي جهده في التخطيط الذي أراده للريف وللحضر. ودون ان تستفيد الدولة من تجاربه المستفادة او حتي تعترف به. واختفت اخبار الدكتور محمد نصار. رحل الدكتور نصار دون ان تلقي الأضواء عليه. مثله مثل كل الشخصيات العظيمة التي لا يتذكرها احد لمجرد أن الظروف السياسية قد تغيرت ولم تعد الدولة تهتم بصحة الفقراء في الريف أو الحضر. التحية للراحلين. لمزيد من مقالات أمينة شفيق