العنوان أعلاه صياغة تساؤلية لقضية ملتبسة كانت موضوعاً لأربعة مقالات حفلت بها صحف الأسبوع الماضى، بدأها د. عمار على حسن وهو يناقش ظاهرة النفاق فى «المصرى اليوم» 16 مارس الحالى، وبتاريخ 19 كتب السفير عز الدين شكرى فى الصحيفة نفسها مقالاً مبدعاً حول دور الكاتب الذى يرى ويسمع ويتكلم، وفى اليوم نفسه كتب د. نصر عارف فى «الأهرام» عن المسجونين معرفياً الذين يبقون أسرى لأيديولوجيات تجاوزتها المتغيرات، بعدها بيوم واحد كتب الأستاذ عزت القمحاوى فى «المصرى اليوم» عن الذين يغيرون مواقفهم بحسابات المغانم والمصالح ناسين أننا نعيش عصر «الانترنت» حيث الكتابات والأقوال محفوظة ومسجّلة. فى هذه المقالات التى تصادف وللمفارقة نشرها فى أسبوع واحد يكمن سؤال حديث قديم هو هل يُقاس صدق الكاتب بالتزامه التاريخى بأفكاره ومواقفه أم أن من حقه أن يغيّر هذه الأفكار والمواقف؟ وهل يُعتبر التغير من النقيض إلى النقيض خيانةً أم تطوّراً؟ يحتمل السؤال رؤيتين أولاهما أن للكاتب مثل أى شخص آخر حق التعبيرعن رأيه، وأن التطور بمفهومه الكلى ظاهرة إيجابية، بل هو ناموس من نواميس الكون بمقدار ما أن الجمود والتقوقع داخل فكرة أو أيديولوجية يبدو ظاهرة سلبية تخالف هذا الناموس الكونى. سبق أن شهدنا نماذج لمفكرين كبار راجعوا أفكارهم وغيّروا مواقفهم، سواء اتفقنا معهم أم اختلفنا مثل توفيق الحكيم الذى اعتبر كتابه «عودة الوعى» مراجعةً نقدية لروايته «عودة الروح» وزكى نجيب محمود الذى تجاوز فلسفة «الوضعية المنطقية » إلى رؤية صوفية فى سنواته الأخيرة، والفرنسى روجيه جارودى فى موقفه من الحضارة الغربية برمتها. الرؤية الثانية تنتقد تغيير (المواقف) الفكرية بناء على تغير (المواقع) الشخصية دون مصادرة للحق فى التطور، فإن يغيّر الكُتّاب والمثقفون أفكارهم ومواقفهم فهذا حقهم الذى لا يمكن إنكاره، أما أن يكون هذا التغيير مدفوعاً بمغنم أو مصلحة فهذا يعنى أننا سنغيّر مواقفنا فى كل مرة تتغيّر فيها مواقعنا ومصالحنا وهو ما ينال من صدق المكتوب ومصداقية الكاتب، بمقدار ما يعنى أن يصبح المبدأ أداة للتوظيف الشخصى وليس قيمة نؤمن بها وندافع عنها، وهنا تحديداً نعثر على تفسير لغياب أو تآكل دور النخبة المثقفة حين تصبح جزءاً من الأزمة وليس الحل. قد يرى البعض أن هذه الرؤية الثانية تعنى التفتيش فى الضمائر، فى ظنى هى لا تعنى ذلك بالضرورة لأن الملابسات والحقائق التى تصاحب التغير تبدو فى الكثير من الحالات قرائن كاشفة يصعب تجاهلها، وبرغم ذلك فإن تفادى التعميم وإطلاق الأحكام أمر مطلوب. والواقع أنه لا يمكن فصل علاقة الكاتب بالسلطة عن علاقته بالمجتمع، وعن علاقته بالكلمة بوصفها الكائن المجازى الذى يُفترض أن الكاتب لم يتعاقد مع أحد سواه على التزام الصدق، يصعب سبر أغوار هذه العلاقة الثلاثية المعقّدة بدون طرح سؤال لماذا نكتب؟ السؤال كفيل باستجلاء القضية برمتها. فقد نكتب لأجل إرضاء هذا النداء المجهول، المثالى فى الغالب، للدفاع عما نؤمن به من قيم أو أفكار لتغيير مجتمعنا وربما العالم كله إلى الأفضل، هذا هو نموذج «الكاتب الملتزم» أو ما كان يُسمى «الكاتب العضوى» مثل أحمد بهاء الدين ويوسف إدريس، وقد نكتب كمبدعين بوصف الكتابة قيمة جمالية بحد ذاتها وأحد تجليّات مذهب الفن للفن أو الكتابة للكتابة «الكاتب المبدع» مثل نجيب محفوظ فيما أعتقد، وقد نكتب أخيراً باعتبار الكتابة مهنة أو وظيفة «الكاتب المهنى» وهذا بذاته لا ينتقص من قيمة الكتابة متى كانت لوجه الحق والخير والجمال بالمعنى الأوسع والأسمى للكلمة. باستثناء الكُتّاب الذين وهبوا أنفسهم للكلمة فتشرّدوا أو جاعوا أو قُتلوا فإن الكاتب العربى عموماً يعانى من علاقة معقّدة وملتبسة مع خمس سلطات/قيود يحاول التعايش معها هى سلطات الحكم والمال والدين والتقاليد والجماهير. سلطة الحكم تخيف الكاتب أو تستقطبه، وسلطة الدين ترهبه، وسلطة المال تغويه، وسلطة التقاليد تعلمه الجبن، وسلطة الجماهير تدغدغ رغبته الدفينة فى السعى للانتشار والمقروئية الواسعة ولو بإثارة قضايا غرائبية متعالياً أو متذاكياً فى الابتعاد عن الكتابة الملتزمة ذات المخاطر السياسية العالية، لهذا يعانى الكاتب العربى مرتين، مرة أولى فى عملية الكتابة ذاتها ومرة ثانية من كيفية إدارة هذه الصراعات التى لا يعرفها أصلاً الكاتب الأوروبى أو الأمريكى. وهنا يتجلّى وجه آخر من أزمة الكتابة وليس أزمة الكاتب. بالطبع ما زال هناك وجود للكاتب الحر الذى يخرج سليماً من صراعه المكتوم مع القيود الخمسة التى تحاصره، وبالطبع أيضاً ما زال من حق مثل هذا الكاتب أن يغيّر مواقفه وأفكاره. لكن ذلك لا يتم عشوائياً أو فجائياً بل ابتداء من عملية مراجعة ونقد ذاتى يصل بها إلى خلاصات جديدة ترتكز إلى أسس ومناهج تفكير. هنا لا بأس من تغيير أفكارنا ومواقفنا، أما التغيير الذى يبدو مثل القفز من مركب يواجه الغرق إلى مركب على وشك الإبحار فهذا أمرٌ آخر، كيف نفرّق بين الاثنين؟ أكاد أقطع أن السلطة والمجتمع قادران على ذلك. فللسلطة حاسة دقيقة متطوّرة تكنولوجياً، وللمجتمع حدس فطرى لا يخطئ فى معرفة لماذا نكتب (!) لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم