تبدأ 8 مايو.. إعلان جدول امتحانات الفصل الدراسي الثاني في كفر الشيخ    بالصور.. تسريب مياه داخل إحدى السفن بغاطس البحر المتوسط في بورسعيد    قطاع الدراسات العليا بجامعة القناة يعلن مواعيد امتحانات نهاية الفصل الدراسي الثاني    متحدث وزارة العمل: تعيين 14 ألف شخص من ذوي الهمم منذ بداية 2023    البرلمان يحيل 23 تقريرا من لجنة الاقتراحات والشكاوى للحكومة لتنفيذ توصياتها    مقاطعة الأسماك في بورسعيد.. أفران ومحلات تغلق أبوابها والتجار والصيادون يتبادلون الاتهامات- صور    بدء الجلسة العامة للنواب لمناقشة بيان الموازنة العامة    قرار جديد من الحكومة بتحديد أيام إجازات عيد العُمال وشم النسيم    اطلاق المؤتمر الدولي الخامس لتحلية المياه بشرم الشيخ| مايو المقبل    «الزراعة» تتابع حصاد محصول القمح في جميع المحافظات.. إنفوجراف    توقيع بروتوكول تعاون بين البيئة ومؤسسة حارتنا المصرية للتنمية المستدامة    وزيرة الداخلية الألمانية: مزاعم التجسس الجديدة "خطيرة للغاية"    جيش الاحتلال الإسرائيلي يقصف مناطق لحزب الله في جنوب لبنان    تفاصيل اصطدام طائرتين خلال عرض عسكري في ماليزيا.. مصرع 10 أشخاص (فيديو)    "جوميز لا يصلح".. نجم الزمالك السابق يطلق تصريحات نارية ويصدم شيكابالا    قبل نهائي أفريقيا للطائرة.. لاعب الأهلي: نُريد تعويض الجماهير عن اخفاقات الموسم الماضي    اليوم.. انطلاق المهرجان الطلابي "سيناء أولا" احتفاءا بالذكري 42 لتحرير سيناء    "ضد رغبته".. أراوخو أول المرشحين للرحيل عن برشلونة    ناتاليا: درسنا أبيدجان جيدًا وهدفنا وضع الأهلي في نصف نهائي كأس الكؤوس لليد    كولر يشرح خطة مواجهة مازيمبي الحاسمة في محاضرة فنية    "ضربها بمزهرية".. تفاصيل مقتل مسنة على يد سباك بالحدائق    19 مليونًا في 24 ساعة.. ضربة أمنية لتجار العملة الصعبة    رفع 40 سيارة ودراجة نارية متهالكة بمختلف المحافظات    سلاح ومخدرات.. الداخلية تداهم أوكار المجرمين بالمحافظات    التعليم: عقد امتحانات طلاب الدمج بالأول والثاني الثانوي ورقيًا    غرق شاب في ترعة أخميم بسوهاج    سباك ينهي حياة سيدة مُسنة لسرقتها بحدائق القبة    وقف نظر دعوى مدير حملة أحمد طنطاوي بقضية تزوير التوكيلات الشعبية    محمد سامي ومي عمر بمسلسل جديد في رمضان 2025| تفاصيل    «مفاجآت مالية».. توقعات برج الدلو في الأسبوع الأخير من أبريل 2024    916 ألف جنيه إيرادات فيلم شقو في السينمات خلال 24 ساعة    وفاة السيناريست تامر عبدالحميد مؤلف"القبطان عزوز"    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    وزير الصحة: التوسع في الشراكة مع القطاع الخاص يضمن خلق منظومة صحية قوية    تحذيرات هيئة الأرصاد الجوية من ارتفاع درجات الحرارة ونصائح الوقاية في ظل الأجواء الحارة    إطلاق قافلة طبية مجانية في قرى مرسى مطروح.. اعرف الأماكن والتخصصات    مجلس النواب يستمع إلي البيان المالي للحكومة لموازنة 2024-2025    بمناسبة اقتراب شم النسيم.. أسعار الرنجة والفسيخ اليوم الثلاثاء 23/4/2024    رئيس الأركان الإيراني: ندرس كل الاحتمالات والسيناريوهات على المستوى العملياتي    حالات لا يشملها المخالفات المرورية السعودية..طريقة طلب اعفاء من المخالفات المرورية    الرئيس السيسى يضع إكليلا من الزهور على النصب التذكارى للجندى المجهول    شعبة الأدوية: انفراجة في توفير كل أنواع ألبان الأطفال خلال أسبوع    نيللي كريم تثير فضول متابعيها حول مسلسل «ب100 وش»: «العصابة رجعت»    جامعة القاهرة: دخول جميع الطلاب امتحانات نهاية العام دون حرمان غير المسددين للمصروفات    زلزال بقوة 5 درجات يضرب المنطقة البحرية قبالة محافظة هوالين فى تايوان    توفيق السيد: غياب تقنية الفيديو أنقذ الأهلي أمام مازيمبي.. وأرفض إيقاف "عاشور"    إسماعيل بامبا: مستمر مع بتروجت.. ولدي بعض العروض    رسولوف وهازنافيسيوس ينضمان لمسابقة مهرجان كان السينمائي    طلاب الجامعة الأمريكية يطالبون الإدارة بوقف التعاون مع شركات داعمة لإسرائيل    الرئيس البولندي: منفتحون على نشر أسلحة نووية على أراضينا    الدفاعات الأوكرانية: دمرنا جميع الطائرات المسيرة التي أطلقتها موسكو خلال الليل    بدرية طلبة تشارك جمهورها فرحة حناء ابنتها وتعلن موعد زفافها (صور)    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    خلال ساعات العمل.. أطعمة تجعل الجسم أكثر نشاطا وحيوية    "بأقل التكاليف"...أفضل الاماكن للخروج في شم النسيم 2024    مستدلاً بالخمر ولحم الخنزير.. علي جمعة: هذا ما تميَّز به المسلمون عن سائر الخلق    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    علي جمعة: منتقدو محتوى برنامج نور الدين بيتقهروا أول ما نواجههم بالنقول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
«أصابع لوليتا»
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 03 - 2018

تبدأُ رواية «أصابع لوليتا» بالكلمات التالية: «لوليتا... هل تدرين كيف يتدرب الإنسان على حُبِّ قاتله؟ أنْ يُحبه كل يوم أكثر. لو فقط بقيت قليلًا... كنتُ سأغفر لكِ كل خطاياكِ وأمنحُكِ مزيدًا من معاصى الجسد. لو فقط لم تنسحبى فى عزِّ الضوء، كنتُ استمعتُ إليكِ بانتباهٍ أكثر. لو فقط كنتِ هنا، لقلتُ لكِ كمْ أحبّكِ؟! رسالتكِ الأخيرة التى نسيتها على الطاولة قبل انسحابك الحزين، لم تكُن كافية لتزرع بعض النور فى قلبى. حرمتْنِى لذة الانتحار، ولكنها زرعت المرارة فى ما تبقَّى من قلبى، ومنعتنى من نسيانكِ». هذه الكلمات هى بداية ما يستهلُّ به الكاتب يونس مارينا اعترافاته عن الأثرِ الذى تركته فيه حبيبته لوليتا التى تركته بعد أن رحلت عن العالمِ فى حادثٍ كابوسى من أحداثِ الإرهاب الدينى. ويونس مارينا كاتبٌ جزائرى اضْطُرَّ إلى الهرب من الجزائر فرارًا من كابوس الإرهاب الدينى والفساد السياسى معًا، ولم يهدأ إلا بعد أن وصل إلى فرنسا التى تحررت فيها كتاباته من القيود، ونجح فى أن يُصدر فيها عدة روايات جعلت منه كاتبًا عربيًّا مرموقًا من الكُتّاب الذين فُرِض عليهم أن يختاروا الحياة فى المَنافِى، بعيدًا عن أوطانهم التى اكتوت بجحيمِ الإرهابِ الدينى والفسادِ السياسى على السواء. وفى المَنفَى يلمعُ اسم يونس مارينا وتُترجم كُتبه إلى العديدِ من اللغات الأوروبية.
.......................
وتبدأ أحداث الرواية فى خريف معرض فرانكفورت الدولى بعد أن صدرت الترجمة الألمانية الأخيرة لروايته التى كتبها مُعبِّرًا عمّا يشعر به. وفى معرض فرانكفورت يلتقى يونس بمُترجِمته الألمانية «إيا» التى ترجمت روايته الأخيرة «عرش الشيطان»، وجلست معه فى المعرض، فى حفلِ توقيعِ روايته التى نالت اهتمامًا مُتزايدًا بعد أن أصدر ثُلاثيته التى دفعت به إلى ساحة الروائيين الكبار. ونعرف من السياق أن علاقة حب هادئة مُتعقِّلة جمعت بينه و»إيفا» مترجمة روايته إلى الألمانية، وهى امرأة تتميز بهدوئِها الذى يزرع فى نفسه نوعًا من الطُّمأنينة، ويستمر فى توقيع روايته الأخيرة التى كانت سادس رواية تُترجمها له إلى الألمانية، ولا ينسى أن يكتب إهداءً بالفرنسية إلى صديقته إيا: «صديقة الهمومِ والسعادات الصغيرة، مجرد تذكير هامشى بلا جدوي: كل الحروبِ مُجتمعة لن تستطيع أن تضع حدًّا للحب. ربما كان ذلك هو انتقامنا من الصمت وعبث المخلوقات». ويمضى فى توقيع النُّسخ إلى أن ينفد أغلبها ولا يبقى سوى ثلاث نسخ، أخذ الثانية منها قارئ مع صديق له، أما النسخة الثالثة الأخيرة فقبل أن يكتب الإهداء سأله حامل النسخة باستغراب: «السيد مارينا... لماذا تكتب ضد الإسلام؟ ماذا ستربحون عندما تسخرون من ربِّكم؟!». وبعد أن انتهى من السؤال، سأله مارينا من أين هو؟ فأجاب القارئ: «ألمانى ذو أصلٍ تُركى»، ولكنه كان واضحًا أنه ذو خلفيةٍ إسلاميةٍ ضيقة الأفق، فسرعان ما اتَّهم روايات الكاتب الجزائرى بانها ضد الإسلام، وأنها مثالٌ للتغريبِ والكفرِ بالقيمِ وبيع النَّفس للشيطان الرجيم. وانتهى النِّقاش بأن انسحب الشاب تاركًا النسخة الوحيدة التى ظلت للحظات بين يديه ثم وضعها على طاولة التوقيعات وانسحب مُنَكَّس الرأس، مُهروِلًا. وظل يونس مارينا حائرًا يسأل نفسه: «لا أدرى لماذا يتحول الناس فجأة إلى محاكم التفتيش المُقدَّس؟ ومن كلَّفهم بذلك؟» ويتحاور مع إيا حول هذا الموضوع، لا يقطع حديثهما إلا أخبار النجاح الباهر لروايات يونس مارينا التى كان سعيدًا بنفاد نسخ السحب الثلاث الأولى، وبداية التفكير فى طبعةِ الجيب الشعبية. فالرواية وجدت جمهورها، وهذا هو الأهم. وما رآه مارينا بمثابة حصيلةٍ ممتازةٍ، فغدًا سوف يوقِّع عقود الترجمة الدَنماركية والسويدية والنرويجية والهولندية واليابانية والصينية والعبرية. وهذه حصيلة ممتازة تُتيحُ له أن يعودَ إلى باريس بعد الظهر إذا شاء. واقتسم مع إيا ما تبقَّى من قنينة شمبانيا الافتتاح التى جاءت بها صاحبة الدار. وفجأة أثار حواسه كلها العطر نفسه الذى كان يأتى من مكانٍ ما من جوانب المعرض الذى بدأ يفرغ من زوّارِه. ورفع رأسه كالذئبِ الذى يتحسس المصدر الذى لم يكُن بعيدًا. وأدار عينيهِ فى كلِ الاتجاهات واستنفر كل حواسه كالحيوان البرِّى ليتتبع أثر العطرِ الهاربِ. وفجأة خرجتْ من بين الجموعِ المُتراصة التى كانت تتهيَّأ للخروج، وكأنها شخصيةٌ سينمائيةٌ، لم تكن تحمل فى يدها سوى باقة بنفسج اختلطت رائحتها بعطرها. كانت ابتسامتها مُشرقة، وضحكتها مُشِعَّة بأسنان لا يوجد بها أى انكسارٍ أو اعوجاجٍ، كأنها خرجت للتوِّ من مجلةٍ يلمع بريقها من بعيد. ووضعتْ الباقة على الطاولةِ ثم نظرتْ فى عينيهِ بنشاطٍ طفولي: «هل يسمح سيد يونس مارينا؟» ولم تنتظر إجابته وقبَّلت يده ووضعت الباقة فيها وهى تضحك، بينما ظل هو مُندهشًا فأحسَّ بأنه قد رآها قبل ذلك. وضحكت بينما كان مندهشًا من غرابتها أو من الطفل المُتخفِّى فى عينيها، وتأكد أخيرًا من أن العطرَ الساحر الذى شمَّهُ منذ اللحظةِ الأولى من جلوسِهِ فى هذا المكان كان منها ومن باقتها. وأخبرته أنها أقسمت لنفسها أن تُقبِّل اليد التى كتبت «عرش الشيطان» التى قرأتْها فى لُغتها الأصلية (العربية) وأُعجبتْ بها إلى درجةِ الجنون، وشعرت كأنها مَعنيَّة بكل حرفٍ خرج من الرواية. وكان سعيدًا بها، ورأى فى عينيها بريقًا لا يحد من الجرأةِ والذكاء والرغبةِ فى الحياةِ. وحادثته على أنها مثله ضحية القتلى الجُدد، مؤكِّدة أن الدين عندما يُسَيَّس يفقد عفويته، ويتحول إلى كراهيةٍ بغيضةٍ بين الناسِ والمُحيطِ، وظلت تنظرُ إلى عينيهِ فى دهشةٍ، وهو يتحدثُ بشكلٍ يكاد يَنسى فيه أنه مع مُعجبةٍ وليس مع مُفكِّرةٍ. وتوقف عند كلماتها: «أحيانًا يهددونكَ ليرموكَ فى عُمقِ الرُّعبِ. مُتعتهُم الكبيرة أنْ يُفقِدوكَ توازنكَ». وأضافت: « لابد أن يكون ذُعركَ أكبر مع (رواية) عرش الشيطان. قالوا إن الشيطان هو من أوحى لك بهذا النص... قرأتُ هذا فى إحدى الصحف الوطنية، قبل أن يُفتوا بقتلكَ، وجدوا شَبهًا بينكَ وبين سلمان رشدى وابن المقفع، حتى أن بعضهم طالَبَ باختطافكَ ووضعكَ على طاولةٍ طويلةٍ، وسحبك من رِجْلكَ حتى التمزق، مثلما كان يفعل ذلك السارق اليونانى، وبعدها شَيُّكَ مثل الخروف على مَرْأًى من المؤمنين ليتعظوا مما يرونه». ولم يُعلِّق مارينا سوى بكلمتين: «الجهل أعمى»، ولم يستطع الكاتب الجزائرى الذى تُرجمت روايته إلى كثيرٍ من لغات العالم سوى أن يواصل الدهشة التى غرستها فيه هذه الشابة التى لو تزوَّج بشكلٍ طبيعى، لكانت هى صُغْرى بناته. وتساءل: «من أين لها بكل هذه المعلومات، وهذا السحر الغريب وهذه الجاذبية؟!» وظل مارينا يفكر فيها بعد أن انصرفت عنه ولا يستطيع أن ينساها، فكل ما عرفه منها أنها تعيش فى باريس، وأنها تعمل عارضة أزياء، وأنها ذاهبة إلى إندونسيا وجاكرتا على وجهِ الخصوصِ. وحدَّثته عن إندونسيا التى كانت لا تُعانِى من مشاكل طائفية أو دينية، وأنها تضم أكثر المصانع تطورًا لصناعة الأقمشة الحريرية النادرة وغيرها. وغادرته لتنغمس فى أمواجِ البَشرِ المغادرين للمعرض، لكنها قبل ذلك التفتت نحوه للمرةِ الأخيرةِ فكأنها فعلت ذلك عمدًا؛ ليحتفظ بكل قَسَماتِها وابتسامتها الهاربة وملامحها الهادئة. وأعاد النظر فى البطاقة التى كانت قد أعطتها له، لكن فجأة لمعت فى ذهنه وبشكلٍ حادٍ قسماتها الطفولية العنيدة قبل أن يُفاجِئهُ صوت، اخترق كل الحواجز الورقية فى شكل همسات مُتقطِّعة، لكنها شديدة الوضوح. وفجأة صرخ لنفسه فى جنونٍ يشبه جنون أرشميدس، ممزوجًا بنشوةِ الانتصارِ: عرفتُها... واو... لوليتا... هى... لا أحد غيرها ... لو... لى... تا. واندهش من اندفاعه الغريب الذى يحدثُ له للمرةِ الأولى وتحسس حيرته وهو يحاول أن يفهم ما حدث له، فأغرب الغرائب أن تلتقى بامرأةٍ تخرج أمامكَ من كتابٍ قرأتَه منذ ثلاثين سنة والتصق بذاكرتكَ كعقربِ الصخورِ البحرى، تقف أمامكَ خارجة من رحم اللغةِ وتتحول إلى كائنٍ بشرى من لحمٍ ودم، هى لوليتا، بعدما خرجت من مُراهقتها بسلسلةٍ من المصُّادفاتِ المجنونة، وأصبح متأكدًا من أن لقاءهما الأول كان فى كتاب «نابوكوف». عُمرها لم يتجاوز ثلاث عشرة سنة، لكنها أكبر من سِنِّها، حِفنة من البارود والجنون. بدا له كأنه ناداها ولكنها لم ترد على صرخته المكتومة والخجولة، حتى عندما رفع صوته للمرة الأخيرة، مُقطِّعًا اسمها مثلما كان يفعل عشيقها وزوج أُمِّها هامبر: لو... لى... تا... وشعر بأنها كانت وَهمًا جميلًا واختفى فى دائرة الخبلِ والجنون حتى عطرها انسحب نهائيًّا وربما ضاعت نهائيًّا فى عُمقِ الحركةِ أو عادت إلى وضعها الطبيعى الذى جاءت منه: «امرأة كتابٍ ليست إلا لوليتا نابوكوف».
هكذا تأخذ رواية واسينى الأعرج عنوانها «أصابع لوليتا» وتشير إلى النص التى تتناص معه، أو تبدو كأنها مُعارضة له، وهى رواية لوليتا العالمية الشهيرة التى كتبها الكاتب الروسى فيلاديمير نابوكوف، ونُشرت فى الولايات المتحدة قبل أن تُترجم إلى كثيرٍ من لغات العالم ومنها اللغة العربية التى أخُصُّ فيها ترجمة خالد الجبيلى فى منشورات الجمل، وهى الطبعة التى تبدأ بالكلمات التالية: «لوليتا، يا نور حياتى، يا نارًا تَضْطَرِمُ فى أحشائى. يا معصيتى، يا روحى. لو- لي- تا: طرف اللسان ينطلق فى رحلةٍ تتكون من ثلاث مراحل حتى يصل إلى الحَلْق؛ وفى المرحلة الثالثة، ينقر على الأسنان، وينبعث اسم: لو- لي- تا».
ولكن من الذى دفع يونس مارينا الكاتب الجزائرى الذى يعيش فى فرنسا - هربًا من كابوس الإرهاب الديني- إلى أن يتعلق بهذه الصورة من لوليتا الأمريكية الجميلة ابنة الثالثة عَشْرَة، والتى يراها يونس مارينا فى منزلةِ ابنته الصُّغرى لو كان تزوج شابًا؟ إنها المُعارَضة الأدبية، وفى الوقت نفسه كتابة نصٍّ على النصِّ. نَص عربى يُعربِدُ فيه الموت باسم الدين منذ البدايةِ إلى النهاية، ونَص أمريكى تُعَرْبِد فيه النشوة والرغبة التى تنتهى بالموت، ولكن باسم الحياةِ التى هى نوع من تفجُّرِ الدوافعِ الحيوية التى تُبقِى على ربيعِ الحياةِ وخصوبتها.
والعلاقة بين النَّصين «أصابع لوليتا» و«لوليتا» الأصل هى علاقة لافتة للانتباه، ابتداء من اختيار العنوان المُتعمَّد الذى يشير إلى غاية المُعارضة التى تنطوى على مفارقةِ التَّضادِ بين عَالَمين. يُؤْثِر أولهما الإبقاء على الحياةِ الآتية لمستقبلٍ مُتكوِّرٍ فى بطن لوليتا الحامل مع زوجها الذى ينتظر الجنين، وحياة أخرى مُهددة بالموتِ فى الصورة العربية «أصابع لوليتا» التى تبدأ بإنذارات القتل وتنتهى بتدمير الجسدِ الإنسانى، فى علامةِ مُؤكِّدة على الموتِ الكابوسى الذى يسببه فعل الإرهاب الدينى باسم الإسلام.
ولكن لماذا اختار واسينى الأعرج تقنية المُعارضة أو البارودية (Parody) فى هذا النَّص دون غيره؟ أولًا: ليمايزَ بين الإرهابِ الدينى العربى المعاصر الذى يشنُّه إرهابيو الإسلامِ على المثقفين المسلمين فى منافيهم الأوروبية. وثانيًا: ليعقد مقارنةً مُضمَرةً لا تخلو من دلالتى المفارقة والتضاد ما بين عَالَمين يعيش فيهما الكاتب الروائي: العَالَم الأول هو العَالم الغربى الذى عاش فيه فلاديمير نابوكوف الكاتب الأمريكى الروسى الأصل فى الولايات المتحدة، هربًا من جحيم القمعِ السويتى إلى ما بدا مرفأ الأمان والحرية فى أوروبا، وبعدها الولايات المتحدة، حيث استقر وكتب بلغتها روايته الأشهر «لوليتا» التى بلغت من الشهرة والذيوع ما ندر أن يحدث مع رواية قبلها. وهى رواية تتناول موضوع سِفاح المحارم فى سردٍ يبدأ بالشهوة وينتهى بالموت على نحو يتجاور فيه عَالما الرغبة والموت (الإيروس والثناتوس) فى صيغةٍ من التمردِ الحدى الذى يواجه التدين الشكلى للطبقة الوسطى الجامدة فى إحدى المقاطعات الأمريكية. وهو التمرد الموازِى لما هو موجود برواية واسيني- فى مواجهة العالم العربى الإسلامى الذى يتهدده الموت على أيدى مجموعات المتعصبين التكفيرين الذين يحكمون على المخالفين لهم بالموت الذى هو عقاب على كُفرهم، من حيث هو صفة أحق الناس بها الذين كفَّروهم. ونحن من هذا المنظور- إزاء روايتين تتبادلان علاقة مؤكدة ما بين «الحياة» ونقيضها «الموت» الذى صاغه فلاديمير نابوكوف اعترافًا بقلم قاتل ينتظر الحُكم عليه بالإعدام؛ لأنه ارتكب سلسلة من الجرائم ابتداء من سِفاح المحارم مع ابنة زوجته التى لم تجاوز الثانية عَشْرَة إلا بأقل من عامٍ، وقتله من تسبب فى غوايتها الأولى قبل أن ينجذب هو إليها، مندفعًا على نحوٍ غريزى بعُقْدةٍ نفسيةٍ مَطمورةٍ فى لا وعيه الذى يرجع إلى طفولته الأولى أو مُراهقته الباكرة. وتبدأ اعترافاته بتقديمٍ تعريفى من الدكتور ون راى قريب المحامى الذى تولى الدفاع عنه، والحفاظ على اعترافات إدجار هامبرت هامبرت الذى مات فى السجن بعد إصابته بسكتةٍ قلبيةٍ فى السادس عشر من نوفمبر 1952 قبل مُثولِهِ أمام المحكمة. وهى الاعترافات التى تُشكِّل حالة دراسية فى أوساط الطب النفسى، بما يجعلها تتجاوز الجوانب التكفيرية الأخلاقية من وجهة النظر الدينية المسيحية، فحكاية الطفلة المتمردة التى تستسلم لزوج أُمها المهووس جنسيًّا بالصغيرات المُراهِقات (الحوريات) والأم الأنانية ليسوا مجرد شخصيات فريدةٍ من نوعِها تنبض بالحيويةِ، وإنما هى موازيات رمزية تُحذِّرنا من نزعات خطيرةٍ، وتُبْرِز لنا شُرورًا مريعة ينبغى أن نَحذَر منها.
وبعد هذا التعريف الإرشادى فى المقدمة، يبدأ الجزء الأول من رواية «لوليتا» ويتبعه الجزء الثانى عن هذه المُراهِقة الصغيرة التى جذبت إلى شِباكِها فى براءةٍ وغفلةٍ - زوجَ أُمِّها الذى جُنَّ بها تأثرًا بِعُقدةٍ قديمةٍ مَطمورةٍ فى لا وعيه، فتزوج أُمَّها لكى يكون قريبًا منها، وذلك فى سَردٍ من جُزءين يبدأ بمعرفةِ الحوريةِ الصغيرةِ الساحرةِ، وينتهى بقتلِ مَنْ تسبب فى غوايتها الأولى فى فعلٍ أشبه بتطهيرِ الكائنِ الإنسانى من غوايةِ الشيطان، ولذلك تمتلِئ الرواية ليس فقط بتفاصيل الشهوةِ أو الجانبِ الجنسى، وإنما بتفاصيل طب نفسية عن العُقَدِ والمكونات النفسية للمَرضى الذين ينطوِى لا وعيهم على هذا النوع المَرَضى من الرغبةِ المُدمِّرة فى الصغيرات اللائى يبدأن مرحلة المُراهقة الباكرة فى نوعٍ من الرطان النفسى العلمى الذى يجعل من الروايةِ الأصليةِ لنابوكوف شبيهة بالتقارير النفسية عن حالات مَرَضية. وهذا أمر لابد أن يبعثَ على الإحباطِ لكل من يقرأ رواية نابوكوف بوصفها رواية سِفاح مَحارم أو رغبات جنسية مُحرَّمة فحسب، فما أبعد الرواية عن ترجمتها السينمائية التى جعلت منها موضوعًا جاذبًا للقراءة والشهرة الفائقة.
هذا عن لوليتا» نابوكوف، أما عن «أصابع لوليتا» واسينى الأعرج، فإنها تبدأ بالرائحةِ، مُشيرة إلى الحاسةِ التى تأخذ أهميةً بالغةً فى اعترافات هامبرت هامبرت، بطل الرواية فى أحدِ مقاطعها التى تنبنى - فى رواية واسينى الأعرج- على نوعٍ من التناصِ مع رواية «العطر» للكاتب الألمانى باتريك زوسكيند التى صدرت فى عام 1985. ولذلك تُفتتح رواية واسينى الأعرج بتضمين يشيرُ إلى روايةِ «العِطر» مُؤكِّدًة أن للعطرِ ذاكرة أيضًا، خصوصًا عندما يفتح البطل حاسة شمِّهِ عن آخرها ليشُمَّ ذلك العطر الغريب الذى يبعث رائحة الغموضِ وبعض الخوفِ، وهو يواجه طابور المنتظرين توقيعه لكتابه «عرش الشيطان». ولا يتذكر صاحبة هذا العطر إلا عندما يتذكر «لوليتا» نابوكوف التى تخرجُ إليه من الذاكرةِ كما لو كانت بَعثًا لها، لكن فى مواجهة محاكمٍ للتفتيشِ تغوصُ فى ضمائر الناسِ لتحكمَ عليهم بالكفرِ والخروج من جَنَّة الإيمانِ. ولا غرابة فى اقتران التناص بالمعارضة فى هذا السياق. فالمعارضة الساخرة أو الضِّدية أو التى تنبنى على المفارقة كلها ترجمات اجتهادية لمصطلح ال Parody فى البلاغة الحديثة، وهو نفسه - من حيث هو اصطلاح فى البلاغة الحديثة للرواية- يمكن أن يتضمن فى بنائه الجزئى معنى التضمين أو التناص بمعناه الحديث الذى تشير إليه الكلمة intertextuality.
ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، فإن رواية «أصابع لوليتا» واسينى الأعرج تبدأُ بما يشبهُ المقدمة، لكن على نحوٍ يغايرُ فى مضمونِهِ مقدمة «لوليتا» نابوكوف التى تقتصر - فى حالةِ واسينى الأعرج- على مُقتَطَفٍ من مونولوج يونس مارينا البطل الجزائرى لرواية «أصابع لوليتا»، مُخاطِبًا إياها بكلمات الوداعِ التى كتبها بعد أن رأى موتها فى انفجارٍ غادرٍ، كأنَّها آخر قَشَّةٍ نلتقِطُ بها الضوء كى لا تتحول الظُّلمة إلى سلطان يمحو هشاشتنا القَلِقَة وسط ظلِّ الموتِ. ويبدو أن الذى شجَّع واسينى الأعرج على جعل روايته ضد الإرهاب الدينى الإسلامى تحمل عنوان «أصابع لوليتا» فى نوع من المُعارَضة الأدبية Parody، هو أن الكاتبة الإيرانية آذر نفيسى أصدرت سيرة ذاتية رائجة بعنوان «أن تقرأ لوليتا فى طهران» سنة 2003 فى الولايات المتحدة، وصدرت الترجمة العربية فى بيروت عن دار الجمل سنة 2011، قبل عام من نشر واسينى الأعرج لروايته فى بيروت عن دار الآداب سنة 2012. وليس هذا من قبيل وقع الحافر على الحافر، فواسينى الذى يتقن الفرنسية، ويكتب بها، قصد إلى دائرة المعارضة Parody فى روايته التى لم تتباعد فى القصد عن دلالة استخدام رواية لوليتا وحياة كاتبها فى عمل آذر نفيسى الذى هو نوع من السيرة الذاتية لمتمردةٍ إيرانيةٍ، هى أستاذة جامعية رفضت الدولة الدينية فى وطنها، واستقالت من جامعتها التى استبدلت بها جامعة فى الولايات المتحدة، بعيدًا عن حكم الملالى. وسيرتها الذاتية تستحق دراسة خاصة، ليس هنا محلها. (وللتحليل بقية)
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.