قبل الشروع فى كتابة مقال انتويته عن الذكرى المئوية لميلاد الزعيم ناصر شاهدت فيلم حكاية وطن وقرأت كلمة الرئيس السيسى فى افتتتاح مؤتمر الحكاية؛ فقررت أن أكتب هذه الخواطر بمناسبتها. ولم ابتعد بمقالى عما كنت أنتويه، فكلا الرئيسين سجل اسمه- فى حكاية وطننا العظيم مصر- قائدا وطنيا فريدا وجسورا فى تاريخها العريق. أولهما، بقيادته ثورة 23 يوليو وثانيهما، بانتصاره لثورة 30 يونيو؛ فانحاز كلاهما لارادة الأمة المصرية وتطلعها للتحرر. أقصد تحرير مصر من نير الاحتلال والتبعية والتخلف الاقتصادى والظلم الاجتماعى، ثم تحريرها من خطر الفاشية التكفيرية والارهابية ومخطط الفوضى الهدامة. وقد تداعت الى ذهنى خواطر تاريخية انطلاقا من حقيقة أكدها السيسى بقوله: إن تاريخ الأمم ليس حلقات منفصلة أو جزرا منعزلة؛ بل هو سياق متصل يزدهر بالنضال والانتصارات، التى تولد من رحم الصمود والمعاناة. وأسجل أولا، ما دوّنه حسين مؤنس فى مصر ورسالتها، يقول: لو عرف المصرى قدر مصر فسوف يهون كل شىء عنده فى سبيلها، ولكى يكون المصرى جديراً بمصر عليه أن يعمل لها ليل نهار، وقد عاشت مصر تاريخها كله على القلائل، الذين فهموها جيداً وأحبوها فى عمق، سواء أكانوا عباقرة أم ناسا بسطاء. وقارئ التاريخ البشرى يفتح كتابه فيجد مصر فى المطلع! وهذا شىء ليس بالقليل، ولكن الذى يقلل من أهميته أننا لا نقدره حق قدره فى بعض الأحيان، وأننا ننسى أن ذلك يفرض علينا الاستمرار فيه، فمصر، هذا الوطن العظيم الجميل الذى نتشرف بالانتساب إليه، يوجز درس التاريخ، مكانها الطبيعى أن تكون فى الصف الأول، لا من ناحية القوة العسكرية أو الثروة، بل من ناحية الحضارة. ففى البدء كانت مصر؛ قبل الزمان ولدت وقبل التاريخ! وفى مصر بدأ كل شىء: الزراعة والعمارة والكتابة والورق والهندسة والقانون والنظام والحكومة، وقبل كل شىء ولد الضمير. أما العقول الرائدة، التى صنعت تاريخ مصر فهى عقول أبنائها، الذين نشأوا من ترابها، أولئك الذين يخرجون من بطون الريف وفى قلوبهم فحولة الفراعنة، وحزم شيخ البلد، ورقة نفرتيتى. أولئك الذين يصنعون تاريخ مصر على مهل وفى صمت. أما هؤلاء الذين أتوا من الخارج فإنهم لم يصنعوا تاريخ مصر، بل مصر هى التى صنعت تاريخها وصنعتهم أيضا! ومع تسجيل الفيلم والخطاب تغيير خريطة مصر بالعمران، أسجل، ثانيا، ما دونه شفيق غربال فى تكوين مصر يقول: فى فجر التاريخ- وفى استجابة فريدة لتحدى عصر الجفاف، الذى هدد بالموت جوعا- هبط المصريون القدماء إلى مستنقعات قاع وادى النيل وحولوها إلى حقول، وأخضعوا طيش النهر لإرادتهم، وجسدوا دور القلة الخالقة فى نشأة الحضارة بتعبير توينبى. وما خلُص اليه سليمان حزين فى حضارة مصر يقول: إن مصر الحضارة ليست هبة النيل بقدر ما هى هبة المصريين. ففضلُ التكوين الأول للتربة الزراعية المصرية يُرَدُ للنيل العظيم؛ لكن إعدادها لصنع بيئة صالحة لقيام الحضارة, ثم استدرار خيرها والحفاظ عليها وتنميتها على مر الزمن كان عمل الإنسان المصرى، وكما وثق بريستد فى فجر الضمير فقد كان نزول المصريين مع عصر الجفاف الى وادى النيل نقطة تحول خطير فى حياة مصر وحياتهم, حيث بدأوا يقيمون أسباب الحياة المستقرة والحضارة الزراعية, وحلت الوحدة الإقليمية محل الوحدة القبلية, ثم وحدوا الصعيد والدلتا؛ فظهرت للناس أول أمة وأول دولة قومية فى التاريخ. ومع اشارة الرئيس السيسى الى تعزيز عناصر القوة الشاملة للدولة، ولاسيما القدرات العسكرية، من أجل الحفاظ على الأمن القومى وحدود الدولة وتأمين السلام والدفاع عن الوطن، وحماية القرار الوطنى المستقل، تداعت الى ذهنى، ثالثا، الكلمات الخالدة للملك سنوسرت الثالث (1887- 1849 ق. م) فى لوحة سمنة الثانية عند حلفا على حدودنا مع السودان، يقول: كلُ ولدٍ أُنجِبُه ويحافظ على هذه الحدود يكون ابنى وأُلحِقُه بنسبى، وأما من يتخلى عنها ولا يحارب دفاعا عن سلامتها فليس ابنى ولم يُولد من ظهرى!! ولا تملك مصر ترف العزلة عن محيطها الاقليمى وهى حقيقة استوعبها المصريون منذ غزو الهكسوس مع أفول الدولة الوسطى. فقد خرجت الى محيطها الاقليمى بعد حصار ضربته على نفسها بفضل اكتفائها الذاتى؛ فأسست وثبتت دعائم أول إمبراطورية فى التاريخ. وبفضل دحر المصريين للغزاة، وكما حسب حسين فوزى فى سندباد مصرى وسجل جمال حمدان فى شخصية مصر فإنه يحق للمصريين الفخر بأنهم أبناء أطول الأمم تاريخا وأن مصرهم عاشت مستقلة ما يعادل سبعين فى المائة من تاريخها! حيث لا تفقد مصر استقلالها حين تحكمها أسرة أجنبية, وإنما عندما تنزل الى مرتبة الولاية والإيالة والإقليم, ويحكمها ملوك أو أباطرة أو خلفاء أو سلاطين يعيشون فى عواصم خارج مصر. وهو ما دفع جيمس فيرجريف فى كتابه الجغرافيا والسيادة العالمية للدهشة من ضخامة هذا الإنجاز المصرى الفريد؛ حيث ما من دولة فى العالم استمرت لنصف الوقت وهى متحررة من الغزو!! وأختم فأسجل: أنه لا ينكر سوى جاهل أو حاقد الإنجازات الكبرى لفترة رئاسة السيسى الأولى- فى خضم معارك صراع الوجود- فى مشروعات: شبكة الطرق الرئيسية الجديدة التى تربط أنحاء المعمور وغير المعمور من أرض مصر، وازدواج قناة السويس، ومطارات حديثة وموانئ متطورة، وبناء محطات كبرى للطاقة الكهربائية، والشروع فى بناء محطة الضبعة النووية، وربط سيناء بالوادى عبر شبكة أنفاق حلم بها جمال حمدان، واستصلاح واستزراع أراض جديدة، وتنمية الثروة السمكية، ومياه الشرب والصرف الصحى، واقامة مجتمعات عمرانية جديدة، ومناطق صناعية متخصصة. ويبقى ما سجلته مرارا أقول: إنه حتى تؤتى هذه المشروعات ثمارها المرجوة، بجانب قرارات الرئيس الجسورة بالإصلاح المالى والنقدى- بضروراتها ومراراتها- وحتى تعزز الأمن القومى لمصر والأمن الإنسانى للمصريين، فإن تصنيع مصر ينبغى أن يكون عنوان فترة رئاسته الثانية. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم