آخر ما كتب إيشيجورو – حائز نوبل فى الآداب لهذا العام, وهو كاتب إنجليزى المنشأ يابانيّ الأصل – رواية صدرت عام 2015 بعنوان “المارد المدفون”. وهى فى حدود علمى لم تُترجم بعد إلى العربية, وإن كانت ترجمتها فى الغالب على وشك الصدور, كدأب كل الأعمال التى حصل كاتبها على نوبل. الرواية مكتوبة بأسلوب, وتدور فى عالم, الحواديت الخرافية, وإن كانت مادتها مرتبطة أيضاً بتاريخ إنجلترا فى العصر الوسيط المبكر, حين كانت ما زالت مقسمة سكانياً بين أهلها الأصليين (البريطان) وبين مستوطنيها الآتين من الشمال الشرقى (الساكسون). فى ذلك الإطار الجامع بين مخلوقات الخرافة الشعبية وبين الحقائق التاريخية, حيث يتزاوج الرعب البدائى من الغيلان والجن والشياطين مع الصراع السياسيّ الوجوديّ بين شعب يستوطن جزيرة بريطانيا منذ فجر التاريخ وهذبت المسيحية شراسته بعض الشيء – وهم السكان الأصليون للجزيرة من البريطان – وبين جحافل الساكسون الوثنية النازلة من اسكندنافيا, وهم من صُلب القراصنة الفايكنج, وأقرب إلى الهمجية, ولذلك هم أكثر حيوية وشراسة من البريطان الأصليين, وسوف يدفعون فى النهاية شعب الجزيرة إلى الشمال والغرب, أى إلى اسكتلندا وويلز, ويستولون على أفضل جزء فى الكعكة: إنجلترا. فى الرواية لم يحدث هذا بعد, وإن كان على وشك الحدوث. أما الحدوتة فهى تحكى عن عجوزين زوجين من البريطان, يتنفسان الأجواء الضبابية التى تشتهر بها إنجلترا حتى الآن, وتعزوها الحدوتة إلى أنفاس أنثى التنين كويريج؛ تلك الأنفاس الضبابية التى يستنشقها الناس فيصابون بداء النسيان. الزوجان, آكسل وبياتريس, مثل كل أهل إنجلترا فى زمن الحدوتة من بريطان وساكسون, يعانيان ذلك الداء, الذى هو نقمة ونعمة, فيكسو الضباب ذاكرتهما فلا يتذكران إلا أحداث اليوم وبعض لمحات من الأمس. وأهم لمحة من تلك اللمحات: ذلك الصبى الذى كان يوماً ابنهما ولم يعد موجوداً الآن. لا يعلمان أين ذهب, ولا يستطيعان سؤال الجيران, لأن الجميع فى الداء سواء, والنسيان خيمة من الضباب تخيم على الكل. ولأنهما صارا عجوزين, فإن أهل القرية, التى تسكن كلها فى كهف عديد الحجرات منحوت فى الجبل, ينتزعون منهما الشمعة التى كانت تنير لهما حجرتهما, خشية أن ترتعش يداهما بفعل الشيخوخة فتسقط الشمعة وتشعل النار فى المكان كله. يعيش الزوجان فى العتمة البدائية, بلا شمعة ولا نار تدفئهما, لأن حجرتهما – كمقامهما وهوانهما على الناس - تقع على الهامش الخارجيّ للكهف العظيم, فلا يصلهما إلا بالكاد الدفء الصادر عن النار الكبرى المشتعلة طوال الوقت فى البهو المركزى للكهف. يستبد بهما الهوان فيقرران الهجرة نحو ذكرى ولدهما الضبابية. وتتخيل بياتريس أن ابنهما – كما تشتهى – رجل قوى فى العنفوان يستطيع حمايتهما. وتتحول رغبتهما فى الوصول إلى ذلك الابن إلى حقيقة ويقين مريح لكنه وهمي, فيذهبان نحو الخلاص مشياً على الأقدام, متخيلين أنهما يعرفان أين يسكن. وفى الطريق يتوقفان للمبيت فى قرية ساكسونية. وفى تلك القرية تبدأ الأحداث فى التعقيد, وتتضافر حكايتهما مع حكاية إدوين الولد الساكسوني, والمحارب “ويستان” الآتى من مملكة فى الشمال الشرقيّ, ليعد للغزو النهائيّ واجتياح الساكسون لكل إنجلترا, وإن كنا لا نعلم الغرض الحقيقى من وجوده إلا فى نهاية الرواية. والشخصية الرئيسية الخامسة هى سير جاوين, أحد فرسان المائدة المستديرة التابعين للملك آرثر, ذلك الملك الذى تمزج حكايته الشهيرة بين الأصل التاريخى والأسطورة الشعبية. ولكن جاوين فى الرواية يكون قد تجاوز المائة بكثير ومات ملكه من عشرات السنين, لكنه مازال ممتطياً فرسه العجوز “هوراس”, ومرتدياً بدلته الحديدية الصدئة التى تثقل كاهله النحيل, وممتشقاً بصعوبة سيفه البتار. وللحكاية تتمة فى السطور القادمة. لمزيد من مقالات بهاء جاهين