غادرت لبنان منذ شهرين، وعدت إلى بيروت منذ أيام.. ومابين المرة الأولى والأخيرة تبدلت أشياء كثيرة، لعل أبسطها وأخطرها هو إحساسك كقادم من بعيد أن الهدوء قد ذهب، ولن يعود قبل وقت طويل. كما أن كل من هنا فى بيروت يبدو خائفا يتربص، أو يتحسس لحرب قادمة يتمنى ألا يكون لبنان مسرحا لها أو وقودها، أو ساحة تصفية حسابات اقليمية ودولية. إلا أن العودة السريعة لاجواء سبتمبر الهادئة نسبيا إلا من مشاكل حياتية أو إضرابات موظفين، تبدو الآن، أمرا من الصعب العودة إليه. الآن لبنان يعيش على أجواء دراما غياب الحريرى عن لبنان واستقالته من السعودية، ثم عودته، وأحاديث عن رغبة فى تولى بهاء الحريرى الأخ الأكبر مقاليد الأمور، ثم قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والذى أشعل نيرانا تحت الرماد، واستدعى هواجس الحرب الأهلية، وما فجرته المناوشات الكلامية التى صاحبت حرق إحدى أشجار الاحتفالات بعيد الميلاد، وأخيرا وليس آخرا «تراشق كبير» بشأن زيارة مسئول ميلشيا «عصائب أهل الحق» العراقية قيس الخزعلى إلى المنطقة الحدودية الجنوبية» وفيما قال البعض إن هذه الزيارة التى لم تسجل رسميا أنها حدثت تمثل خرقا لسياسة «النأل بالنفس»، فان النائب سليمان فرنجية قال «اذا كنا نتحدث عما حصل فى الجنوب فانه يتعلق بالقرار 1701، ولا علاقة له بسياسة »النأى بالنفس»، ولم يزل الجدل مستمرا بشأن السؤال: من أين عبر الخزعلي؟!. وهكذا فإن أجواء التوتر والاتهامات والتجاذبات مابين الاطراف اللبنانية تعكس أجواء المنطقة، فيبدو الآن اكثر من أى وقت مضى أننا أمام انقسام مابين معسكر السعودية والإمارات والبحرين واليمن الشرعية فى مقابل معسكر إيران والعراق وسوريا وحزب الله واليمن الحوثية!، وتقف مصر تحاول أن تمنع الحريق الكبير. واختارت قطر أن تغرد بمشروعها مع جماعات الارهاب، والجزائر تقف رافعة شعار «لا انحياز»، والمغرب مهموم بقضية الصحراء، والسودان يحاول أن يستفيد من المعسكرين، أما ليبيا فهى تحاول لملمة أطرافها، وأن نتلمس المستقبل فى ظل صراعات الميلشيات وعصابات تهريب البشر والهجرة غير الشرعية، والمخدرات والسلاح، وأنباء مؤكدة عن أن إرهابيى الرقة قد رحلوا إلى ليبيا، ومن خلف القوى الاقليمية هناك صراعات ومناورات تركيا وروسيا وفرنسا وايطاليا وبريطانيا والولاياتالمتحدة. . وأحسب أن «النيران» لا تزال مشتعلة، وأن الآمال التى تصاعدت من جراء ماقيل عن «نهاية داعش» لا يمكن الوثوق بها. ويعلم المراقب للشرق الاوسط أنه أحيانا كثيرة ماتكون «الوعود» مجرد سراب، ولعل المثال الأبرز هنا هو على عبدالله صالح الذى توعد الحوثيين فى يوم، وهلل الجميع، إلا أن المشهد انقلب رأسا على عقب حيث اغتيل صالح بدم بارد فى اليوم التالي. وهكذا فإن الذين ذهبت بهم الحماسة إلى الحرب اليمنية بحسابات، يبدو الآن أنها لم تكن دقيقة، أصبحوا الآن فى خضم مستنقع خطير. وهاهى طهران تكشف عن وجهها بصراحة لتقول « إنها سوف تنتصر» فى اليمن!. وهذه الخيوط جميعها تكشف بوضوح أن ادارة أوباما لم تكن تخادع إلا نفسها والآخرين، فقد تبخرت تلك الوعود من أن الاتفاق النووى مع ايران سيحدث فارقا. ويقول الكاتب الأمريكى جاى سولومون فى كتابه «حروب ايران ألعاب الجاسوسية والمعارك المصرفية والصفقات السرية التى أعادت تشكيل الشرق الاوسط» والصادر ترجمته حديثا عن دار الكتاب العربى اللبنانية «إن القيود المفروضة على برنامج ايران النووى على مدى السنوات الخمس عشرة القادمة توفر فرصة لتهدئة الشرق الأوسط، ولكن هناك أيضا مخاطر حقيقية من أن حربا أكبر وأوسع نطاقا بكثير قد تكون آخذة بالتخمر فى المنطقة، وأن الولاياتالمتحدة سوف تستدرج لا محالة إليها». وهنا فإن الجميع يدركون أن السباق مابين الرياضوطهران على أشده، إلا أن ايران حتى الآن هى من تكسب مزيدا من النفوذ. ويكشف سولومون الذى عمل سنوات طويلة لصحيفة وول ستريت جورنال عن أن: القادة العرب يستحوذ عليهم هاجس مقلق حول اتفاق جديد بين الولاياتالمتحدةوايران يفوق قوة الدول السنية لصالح «محور شيعي». لقد أوضحوا للبيت الأبيض والبنتاجون، أنهم سيمضون فى طريق المواجهة مع ايران وحدهم، ويواجهون ايران فى انحاء المنطقة، اذا لم تدعم الولاياتالمتحدة قضيتهم». تلك كانت الرسالة العربية وفى مقدمتها السعودية لادارة أوباما، مثلما نقلت أيضا لادارة ترامب. إلا أن المدهش هو حكم الكاتب الأمريكي، والذى خلاصته «هذه الصفقة الإيرانية، بدلا من تهدئة المنطقة الأكثر قابلية للاشتعال فى العالم، تهدد بمزيد من التأجيج والاشتعال. يمكن لحروب إيران أن تكون بصدد دخول فصل جديد». وأحسب أن العلاقة الملتبسة والغامضة، والمليئة بالأسرار والصفقات ما بين طهرانوواشنطن لم تفصح عن أسرارها الكاملة بعد. إلا أننا نعرف «صفقة الاطاحة بصدام»، وتعاون واشنطنوطهران فى أفغانستان. ولكن هذا عن الخيط الرفيع ما بين عاصمة ولاية الفقيه التى تصدعنا ليل نهار «بالاستكبار الأكبر» و«الموت لأمريكا»، ولكن الصفقات لا تتوقف مع هذا الشيطان الأكبر. وفى المقابل فإن أمريكا لا تتوقف عن التنديد واتهام طهران، إلا أنها تتوقف دوما عن شن أى اعتداء على طهران. وهنا الغموض شديد. وبعيدا عن ذلك فإن المواجهة ما بين الرياضوطهران مرشحة باستمرار للتصعيد، ولن تألو إسرائيل جهدا فى اشعال الحرائق بينهما، بل وفى عموم المنطقة. وفى الوقت نفسه يبدو «السلوك الترامبي» مثيرا للحيرة، فهو يصعد ضد طهران «لفظيا» فقط ويحصل على الأموال العربية والسعودية بكرم بالغ من جانبنا. ولكن فى التصرفات فإنه يقوم بكل ما من شأنه أن يفيد إيران ومعسكرها الذى يتغنى بالقضية الفلسطينية وبالقدس، ولكنه يحارب فى كل الأمكنة فيما عدا الدخول فى مواجهة مع إسرائيل. فالجبهة اللبنانية يمكن أن تتم المواجهة من خلالها، كما أن القوات الإيرانية والميلشيات الموالية لها موجودة فى سوريا. إلا أنها لم تجتز «الخطوط الحمراء»، وبقيت المواجهات والقتال كله «وقوده العرب» وحدهم. ولم تنطلق أى صواريخ تجاه إسرائيل، ولكن ذهبت «الصواريخ الإيرانية» إلى أيادى الحوثي، والذى قام باطلاقها تجاه الرياض مرات عدة، ومن قبل تجاه مكةالمكرمة. ويبقى فى النهاية سؤال بسيط: هل الطبول تقرع فقط للحرب فى الأرض العربية، وبأموال الغرب، وبدماء العرب، ولصالح الآخرين. إذن ترى من يمكن أن يساعد مصر فى اطفاء «نار الحرب المقبلة»، فمن الواضح أن مع نهاية كل جولة يتم تدمير جزء من القوة العربية، ويتم اغراقنا فى الفوضي. وأحسب أن علينا أن نلملم أوضاعنا، وأن نمنح أنفسنا فرصة للتفكير والتدبير بدلا من الانجرار مرة إلى «نيران الجحيم». وبدلا من أحاديث الخراب والدمار فإن لبنان يدخل فى نادى الدول النفطية، وذلك بعدما وقع اتفاقا ضخما مع تحالف «توسال» الفرنسية «ايني» الايطالية و«نوفاتك» الروسية، وهذه الشركات تقدمت بعرضين للتنقيب عن البترول، وذلك وسط توقعات وآمال كبيرة نحو تقدم لبنان خطوة كبيرة كى يصبح دولة منتجة ومصدرة للنفط. وفقا لمعلومات غير رسمية من مصادر لبنانية فإن سعد الحريرى رئيس وزراء لبنان وعد بإنهاء جميع مشاكل لبنان الاقتصادية. ومرة أخرى تبرز الفرصة للسلام والرخاء ليس فقط فى لبنان، ولكن فى ربوع المنطقة، إلا أنه كلما ارتفع منسوب الأمل فهناك من يصر على أن يعيدنا إلى أجواء الخراب والدمار والإرهاب. ترى من يساعد مصر على وقف هذا الجنون؟!. لمزيد من مقالات ◀ محمد صابرين