اعتراف الرئيس الأمريكى بالقدسالمحتلة عاصمة لإسرائيل وعزمه نقل سفارة بلاده إليها، بالطبع تطور فاصل فى مسيرة القضية الفلسطينية، مليء بالدروس والعبر السياسية، التى إذا استوعبناها جيدا يمكن أن نفوق من الأوهام التى عشنا فى كنفها سنوات طويلة. القرار فى ظاهره لطمة على وجوه العرب، وفى جوهره جرس إنذار بأن هناك ما هو أسوأ من ممارسات الاحتلال الإسرائيلى فى الأراضى المحتلة، وما لم يتم الانتباه واليقظة والحذر حيال ما يجرى سوف تتوالى علينا اللعنات والضربات، مستفيدة من الأزمات العربية المتراكمة. الخطوة النوعية التى اتخذها ترامب حافلة بالدلالات، فى شقها الدولى والعربى والفلسطيني، ويكشف الإمعان فى تفاصيلها عن أربع رسائل محورية بدت غائبة عن ذهن كثيرين. الرسالة الأولي، التخلص من وهم الراعى الأمريكى لعملية السلام، ولظروف معينة توافقت رؤى عربية على القبول بوساطة الولاياتالمتحدة، للدرجة التى دفعت الرئيس الراحل أنور السادات للقول أن 99 بالمائة من أوراق اللعبة فى يدها، وهى إشارة إلى حجم النفوذ الأمريكى الطاغى على إسرائيل فى ذلك الوقت. هذا الوهم، ظل سائدا بعد رحيل السادات، وكلما بدت روسيا أو دول الاتحاد الأوروبى قريبين من التسوية أو اللعبة، كانت العين العربية تصر على التوجه نحو الولاياتالمتحدة، وهو ما أفقدنا تعاطف البعض، ربما كانت واشنطن تملك العديد من أدوات القوة فى المنطقة التى تعزز مقولة السادات، لكن لم نعط أنفسنا كعرب فرصة لمراجعة الشعار الذى وضعه الرئيس الراحل وسار خلفه كثيرون. موقف ترامب الذى وقع كالصاعقة على رؤوس بعض القيادات العربية، حتى ولو علموا به قبل صدوره أو تلمسوا ملامحه مسبقا، فهو فى النهاية يجب أن يرفع الغطاء عن الوهم التاريخي، ويدفع نحو ضرورة الدفع بلاعبين جدد. الاتجاه نحو تقليص دور اللاعب الأوحد فى التسوية، يتعزز بتراجع نفوذ واشنطن فى المنطقة، وخسارتها بعض المقومات الرئيسية التى جعلت وهم السادات يتحول إلى حقيقة لم يجرؤ أحد على مراجعتها. بالتالى من الممكن الاستفادة من موقف الاتحاد الأوروبى المتحفظ على الخطوة الأمريكية ويرى أنها «مضرة بجهود السلام»، وفتح الباب واسعا أمام اللاعب الروسي، الذى يستعد لتوظيف الانحياز الأمريكي، بعد أن دعا الرئيس بوتين من القاهرة إلى استئناف التفاوض حول كل القضايا، بما فيها مصير القدس. الرسالة الثانية، رفض التسويات الملغومة، حيث ذهب البعض إلى أن خطوة ترامب ترمى إلى فتح المجال لتدشين ما يعرف ب «صفقة القرن» لتسوية القضية الفلسطينية، فى محاولة لتبرير وقبول قراره، وتجاهل مساومات ومراوغات سابقة جعلت الفلسطينيين يتفاوضون مع حكومات إسرائيلية عدة، دون أن يقتنصوا جزءا معتبرا من حقوقهم التاريخية. اللغم الذى وضعه ترامب لإجبار الفلسطينيين على التسليم بالأمر الواقع، لا يختلف عن جملة ألغام نثرتها واشنطن وتل أبيب فى طريق محادثات السلام المتعثرة، وحشرتها سياستهما فى زوايا فرعية، شغلتنا عن قضايا مركزية فى لب الصراع، مثل القدس والتهجير واللاجئين والحدود والتوسع فى بناء المستوطنات وغيرها، وأصبح الحديث منصبا على حصار غزة وفتح وغلق المعابر والوضع الإنسانى فى الأراضى المحتلة. الأسئلة السهلة تحولت الإجابة عنها إلى مسألة صعبة، مثل: ماذا تريد السلطة الفلسطينية من حماس؟ وما هى دوافعها لقطع الكهرباء عن غزة؟ وماذا فعلت حماس بعد انفرادها بإدارة القطاع؟ وكم عدد الموظفين الذين تقبلهم الحكومة بعد تسلم إدارة غزة؟ وهل يبقى سلاح المقاومة فى يد الفصائل أم يخضع للسلطة الفلسطينية؟ الصدمة أو اللطمة التى وجهها ترامب، ربما تفيق القوى الفلسطينية، وتجبرها على التخلى عن الفروع والعودة للانشغال بالجذور، التى ثبت أن هناك من يتعمد تبديل أولوياتها. الرسالة الثالثة، تتعلق بضرورة المضى قدما فى المصالحة الفلسطينية، وجعلها نقطة انطلاق للتعامل مع المستجدات، والابتعاد عن المزايدات والشعارات الرنانة، لأن موقف واشنطن من القدس فى حد ذاته، يمكن أن يحل بعض الألغاز الفلسطينية، ويدفع نحو الوحدة وتهيئة الأجواء وتبنى رد فعل يتواءم مع حجم الجريمة التى ارتكبها ترامب، وعدم استغلاله من جانب البعض للقفز فوق مطالب المصالحة، التى تفرض على كل طرف تقديم تنازلات للوصول إلى درجة متماسكة من الاستقرار الداخلي، وطى صفحة المرحلة السابقة. البعض تصور أن تجاهل مرور موعد تسلم الحكومة إدارة غزة فى الأول ثم العاشر من ديسمبر الحالي، دون حدوث تمكين كامل، يعنى نسيان جدول المصالحة، لكن الوحدة أصبحت مطلوبة اليوم أكثر من أى وقت مضي، والانخراط فى تخفيف تداعيات قرار ترامب يفرض التمسك بالمصالحة، لأنها الباب الذى يمكن الدخول منه لتحقيق حلم الدولة، ونزع ورقة الانقسام التى دفعت حكومات إسرائيل للتنصل من العودة إلى المفاوضات، وإجبار الولاياتالمتحدة على مراجعة موقفها، وأن هناك عنوانا واحدا يضم جميع القوي، اسمه «منظمة التحرير الفلسطينية». الرسالة الرابعة، تخص الدور العربى المتعاظم الذى يقع على عاتق مصر، فعقب قرار ترامب تسارعت وتيرة التحركات، التى جعلت من القاهرة منطلقا لها، وهو ما يتسق مع الدور الصاعد للرئيس عبدالفتاح السيسى فى الأزمات العربية، فى سوريا وليبيا ولبنان والعراق واليمن، فضلا عن فلسطين، ما يعيد التوازن الذى اختل فى المنطقة لمصلحة بعض القوى الإقليمية. مصر هى الوازن العربى الحقيقي، وبعد استعادتها قدرا من عافيتها على الساحة الخارجية بدأت تنخرط فى مهام كثيرة، لأنها تتبنى منهج تغليب الحلول السياسية على الأدوات العسكرية، الأمر الذى أسهم فى إطفاء بعض الحرائق، كان النفخ فى أحدها كفيلا بإغراق المنطقة فى مزيد من الدماء. الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، قد يمنح بعض القوى الإقليمية الفرصة لتجاوز جزء من جراحها وخلافاتها، وتلتف حول إيجاد آلية لتفريغ قرار ترامب من محتوياته المادية وحصره فى نطاق المضامين الرمزية، من هنا يمكن أن تكتمل حلقة الرسائل المهمة التى تنطوى عليها الخطوة الأمريكية. لمزيد من مقالات ◀ محمد أبوالفضل