أيام عشناها محفورة علي جدران الوطن بدموع ودماء أجدادنا، ويمر الزمن وتتقلب أوراق التاريخ فتصير القصص منسية، إما جهلا أو تجهيلا ليصير اليوم لقيطا، وتنقطع الفروع من أصولها. ولكننا نعود لنرجع بصفحات التاريخ ونمر علي جدران الوطن في تلك الأزمنة فنسمع أنات الشعب ونري دموعه، وهذا ليس طلبا لاسترجاع الألم ولكنه لاسترجاع الجذور. ولا يظن أحد أننا نقصد قصدا خاصا بفكرة طائفية، ولكننا نقصد فكرة تنويرية وهي أن مصر للمصريين، وأن كل حاكم جاء من خارج الوطن ولم يدرك قيمة وحضارة مصر ولم يحكم بالعدل كان كل هدفه أن يسرق وينهب ثروات البلاد. أنه سر هام نكشف فيه كيف تحولت بلادنا من قمة الحضارة إلي أطلال الحضارة، ونكتشف معدن المصريين في أوراق تاريخنا. وفي سنة 741م تولي حكم مصر مروان بن عبدالملك وكان حاكما ظالما شرسا كل همه جمع الأموال حتي إنه طلب من البابا ميخائيل الأول مبلغا كبيرا جدا، ولم يكن هذا في استطاعة البابا فقال له: «أنا رجل فقير وليس بالكنيسة هذا المبلغ»، فقبض عليه هو ومجموعة من الأساقفة وألقاهم في السجن. وتوسط كبار الأقباط وطلبوا من الوالي أن يمنحه فرصة لجمع المبلغ من الشعب، فخرج البابا يطوف المدن والقري كي يجمع من الأقباط ثمن حريته، وجمع نصف القيمة وذهب إليه ليعطيه إياه، فسخط الوالي عليه وسجنه مرة أخري. وسمع بذلك كرياكوس ملك النوبة وكانت حينها كلها مسيحية وتابعة لرئاسة الكنيسة القبطية، فخرج ملك النوبة بجيشٍ كي يحرر البابا. وسمع بن مروان بذلك ولما لم يستطع أن يحاربه أخرج البابا وتوسل إليه أن يطلب من كرياكوس الرجوع حقناً لدماء المصريين، وبالفعل خرج البابا وطلب منه الرجوع كي لا تسفك الدماء. وفي تلك الأيام كان صيت فتوحات أبو العباس قائد جيوش خراسان قد دوي في كل مكان وقد ادعي بأحقيته في الخلافة، وطارد جيوش الخليفة الأموي مروان واستطاع أن يفتح بلاد الكوفة ثم سوريا. وهرب من أمامه مروان وجاء إلي مصر التي كانت تموج بالثورات ضد حكم الأمويين الذي أرهق شعب مصر مسلمين وأقباطا. وقد أعلن والي الإسكندرية انفصاله، بجانب قيام أقباط البشموريين بالدلتا بالثورة الأولي ضد الظلم والقسوة وزيادة الجزية التي رفضوا أن يدفعوها. فقبض الوالي علي البابا مرة أخري وأخذه معه إلي رشيد ليراه الأقباط وهو معذب، ثم طلب منه أن يكتب خطابا لتقف الثورة. ولابد أن ندرك أنها لم تكن ثورة دينية ولكنها كانت ثورة ضد الظلم. وفي تلك الأيام نجح العباسيون أن يتجاوزوا الحدود المصرية، فقام الخليفة الأموي باستدعاء كل جنوده وذهب إلي الفسطاط مركز الحكم وأمهل أهلها مسلمين وأقباطا ثلاثة أيام ليتركوا ديارهم وبعدها أشعل النار كي لا يستطيع العباسيون الوصول إليها، ولم يرحم الأهالي الذين لم يستطيعوا أن يتركوا ديارهم فماتوا حرقا. وقد ساعد المصريون العباسيين ظنا منهم أنهم سيكونون أرحم لأنهم استطاعوا أن يقنعوا المصريين بأنهم سيكونون أكثر عدلا من الأمويين. ولما وجد مروان جيش العباسيين علي الضفة الأخري من النيل أمسك بالبابا والأساقفة والكهنة وأخذ يعذبهم أمام الشعب حتي يقف معه ضد العباسيين. ولما وجد تقدم العباسيين وهزيمة جيشه هرب هو وجيشه إلي الصعيد، وفي طريق هروبهم كانوا يشعلون النار في البيوت والحقول ويهدمون الكنائس والأديرة ولم ينج من أيديهم لا الأقباط ولا المسلمون الذين كانوا يطفئون الحرائق يدا بيد وينقذون الكنائس والأديرة من يد هذا الظالم. والغريب أن مروان لم يجد ملجأ في هروبه أكثر أمنا من كنيسة في بلدة صير ليختبئ بها من وجه العباسيين ولكن كالعادة خانه بعض جنود من جيشه ودلوا علي مكانه فقتله العباسيون. أما ولداه فقتل أحدهم والآخر هرب إلي فلسطين، وبناته احتضنتهم إحدي الكنائس حتي حصلوا علي حريتهم من الأمير صالح أخو الخليفة العباسي. وبدأت مصر تدخل في عصر حكم العباسيين فأخرجوا البابا من السجن وكان مكبلا بالحديد هو والأساقفة والكهنة وأكرموهم وأعطوهم الحرية في مباشرة الطقوس والصلاة وأمروا ببناء ما تهدم من الكنائس وعفوا عن البشموريين الذين ثاروا ضد الأمويين وعاد الهدوء لفترة وجيزة. فقد كانت سياسة العباسيين هي كثرة تغيير الولاة حتي لا ينفرد أحدهم بالحكم، ولكن هذا أضر بمصر كثيرا حتي أنه في سبع سنوات حكم مصر ستة ولاة. فقد كان كل حاكم يدرك تماما قصر أيامه في الحكم مما جعله يزداد وحشية وقساوة في معاملة المصريين وفرض ضرائب وجزية علي كل المصريين ليجمع أكبر قدر من الأموال. وأدت هذه السياسة إلي ثورات عديدة فقام المصريون بخمس ثورات كانت أكبرها أيام خلافة المأمون وهي ثورة البشموريين الثانية وكتب عنها المقريزي في الخطط الجزء الأول صفحة 79: «انتفض أسفل الأرض بأسره عرب البلاد وقبطها وأخرجوا العمال وخلعوا الطاعة لسوء سيرة السلطان فيها فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب». فجاء الخليفة المأمون بجيشه إلي مصر وصار قتال كبير قتل فيه كثير من المصريين وحرقت قري بأكملها، خاصة التي كان يسكنها البشموريون في الدلتا. وسيطر المأمون علي الوضع في مصر ولكنه عنف الوالي عيسي بن منصور وعزله وقال له: «لم يكن هذا الحادث العظيم إلا عن فعلك وعملك حملتوا الناس ما لا يطيقون حتي تفاقم الأمر واضطربت البلاد». وساد الهدوء في مصر ولكنه كان هدوء اليائسين المحبطين، واستسلم المصريون لسوء الأحوال بعد أن كانت آثار دمائهم في كل الشوارع والحواري والأزقة، وبصبر وجلد استمرت الحياة ولكن كنا دائما نبتلع مرارة الظلم من ولاة جهلوا طبيعة المصريين وكانوا قساة القلب فلم يشفقوا علي الجائع والمحتاج وكان كل هدفهم أن يجمعوا الأموال. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس;