يجلس الشيخ سليمان وسط جمع من محبيه، فى باحة المسجد الكبير عند مدخل قرية الجورة، فيما برودة خفيفة تتسلل إلى الأجساد الناحلة، عبر حبات الرمل المندى، فتضيء مصابيح الروح، وسط غبشة الساعات الأخيرة من ليل معتم، إلا من بعض نجوم تبرق فى سماء صافية. ينسل صوت المنشد ذى الأوداج المنتفخة رائقا فى تلك الليلة، فيما الجمع يردد من خلفه فى إيقاع رتيب: «وعليك صلى الله يا خير الورى/ وكذا السلام به تنال وصولا»، بينما الشيخ الضرير يضبط جوقة المرددين، الذين امتلأ بهم «المقعد» الكبير، بنقر خفيف على منضدة خشبية، قبل أن ينهى الأمر بعد نحو ساعتين من الذكر المتواصل، بإشارة من يده، طالبًا من الجمع الذى أسكره الوجد من غير شراب، قراءة الفاتحة لروح حضرة النبي، ولكل من حضر. كنت قد زرت «مقعد السواركة» العامر بالكرم والبركة، قبل ما يزيد على خمسة عشر عاما، بعدما أنهيت مهمة صحفية مثيرة فى سيناء، وعلى الرمال الندية جلست لأتعلم وأستمع فى حضرة الشيخ المناضل حسن خلف، حكايات معطرة بالفخر، وبطولات ترقى إلى درجة الأساطير. لا شىء فى الدنيا يضاهى ليل سيناء جمالا وعذوبة ومهابة، وربما كان ذلك واحدا من الأسباب التى جعلت من صحرائها مترامية الأطراف، ملاذا دائما للزهاد والمتصوفة العظام على مر التاريخ، قبل أن تسكنه جرذان التطرف والإرهاب فى العقدين الأخيرين، تلك التى ذبحت قبل نحو عامين، بدم بارد وبلا وازع من دين أو رحمة، الشيخ العابد سليمان أبو حراز، الملقب فى سيناء ب«شيخ الزاهدين»، ذلك العارف تسعينى العمر الذى اعتزل الدنيا، وآوى إلى عشته البسيطة جنوبالعريش، مستمتعا بشيخوخة بهية، متأملا ذاكرا وسائحا فى ملكوت الله. تذكرت ما فعله الإرهاب فى الشيخ أبو حراز، وأنا أتابع ذلك الحوار المتهافت الذى قدمته قناة «الحياة» قبل نحو أسبوعين، مع الإرهابى الليبى الباقى على قيد الحياة من خلية الواحات الإرهابية، وهو الحوار الذى انتهى- حسبما رأى كثيرون- إلى نتيجة معاكسة تمامًا لما أرادها رعاته، دفعت بعض أسر الشهداء إلى الإعلان عن مقاضاة المحطة الفضائية، ولعل المقام هنا يتسع لأن يثمن المرء تلك الخطوة التى أقدم عليها بعض الأصدقاء فى سيناء، من تخصيص لجائزة سنوية باسم الشهيد الشيخ سليمان أبو حراز، تخصص لحفظة القرآن الكريم، كصدقة جارية على روحه، ويقول الصديق والزميل عبد القادر مبارك إنهم يستهدفون من الجائزة أن تغرس فى أذهان الأجيال الجديدة، مدى وحشية الفكر التكفيرى الذى قتل شيخا جليلا طاعنا فى السن، معربا عن أمله فى أن تتطور فى مراحل لاحقة لتشمل أهل الفكر والرأى، وتعظيم دورهم فى توجيه الشباب، وبناء شخصياتهم بعيدًا عن الأفكار التكفيرية المتطرفة. ورغم أن الجائزة سوف تطلق بداية من العام المقبل، برعاية ودعم من مجموعة شركات مملوكة لأبناء سيناء، إلا أنها تحتاج إلى مساهمة أكبر من الدولة ومؤسساتها المعنية، وفى مقدمتها وزارة الأوقاف، التى لا يجب أن يقتصر دورها على فكرة الإشراف وتشكيل لجنة التحكيم، بل يمتد إلى رعاية ودعم مثل هذه الجوائز التى تنطلق من مبادرات شعبية، فما البال والمبادرة تنطلق هنا من قلب ميدان المعركة مع قوى الإرهاب والظلام؟ رحم الله شيخ الزاهدين فى سيناء، الشيخ سليمان أبو حراز، وجعل كل نقطة دم سالت من جسده الطاهر، جحيما يشوى وجوه قاتليه، وكل صلاة على النبى، تعطر بها لسانه، وصدحت بها روحه، لعنه تطاردهم إلى يوم يبعثون.