ينطلق هذا المقال من عبارة وردت فى مقالى السابق بالأهرام الغراء أشرت فيها إلى أهمية النظر فى قضية الوصاية فى تاريخنا وفى حياتنا الاجتماعية والثقافية. ولقد لفتت هذه العبارة نظر كثيرين من القراء، وعلق بعضهم عليها تعليقاً يستحق التقدير. وأبدأ فى هذا المقال حديثاً حول هذا الموضوع قد يستغرق مقالات عديدة. ويلخص مقال اليوم الكلام جملة على أن تفصل مقالات أخرى موضوعات تتعلق بهذه القضية. ولكن قد يجب أن أشير فى البداية إلى أن الوصاية التى أقصدها هنا هى ذلك النوع من الوصاية السلبية التى تستبعد الآخرين وتهمشهم وتتعالى عليهم، والتى قد تصل فى مداها المتطرف إلى اعتبار هؤلاء الآخرين هم من نوع مختلف (جاهل أو عاجز). ونفترض هنا أن هذا الضرب من الوصاية السلبية قد تجذر فى التاريخ العربى الإسلامي، وورثه الاستعمار، وبعض الحكام، وتسرب إلى عوالم الحياة اليومية فأصبح الفرد منا يعيش فى أركيولوجيا من الوصاية تحيط به أينما يولى وجهه. لا مراء فى أن مجتمعاتنا العربية قد عاشت تاريخاً طويلاً من الوصاية؛ ونستطيع القول دون تردد أن الوصاية كانت سمتا وصبغة فى نظم الحكم القديمة، سواء كانت فى الحضارات القديمة أو فى التراث الإمبراطورى اللاحق بصوره المختلفة على مر التاريخ. فقد انقسمت المجتمعات قسمة صارمة بين شعبٍ وحكامٍ، ولم يكن للشعوب صوت يذكر، وليس أمامهم إلا السمع والطاعة من أولى الأمر، الذين لهم الحق المطلق فى كل شيء؛ فهم آلهة (كما هو الحال فى مصر القديمة) أو هم يحكمون باسم الدين ويعتبرون أن الأرض ومن عليها من البشر ملك لهم. ولقد عكس هذا النظام السياسى الإمبراطوري، وتسلسله الهرمي، نظاماً للوصاية فى مراتب يعلو بعضها بعضاً، تبدأ من الوصاية عند القاع التى تمثلت فى نظام الالتزام الذى يقوم على وصاية الملتزمين على إقطاعات من الأرض ومن عليها من فلاحين لا شأن لهم وليس لهم من قرار إلا دفع الضرائب. ورغم أن الاستعمار قد جاء مدعياً أنه يدخل نظاماً حديثاً ويدعو إلى ثقافة حديثة، إلا أن الفكرة الاستعمارية نفسها هى فكرة وصاية؛ إذ تتأسس على الإيمان بتفوق ثقافة على أخري، وعلى حق القوى فى أن يحكم الضعيف، لا بل أن ينهب ثرواته ويتركه يرزح تحت أقدام الفقر والمرض والجهل، ولم تكن الوصاية مضمرة فى الفكر الاستعمارى فقط، بل كانت صريحة كما ينعكس فى القول بأن هذه الدولة أو تلك قد وضعت تحت الوصاية. وعندما سعت الشعوب المستعمرة إلى التحرر من نير الاستعمار تشكلت فى رحمها نخب سياسية واجتماعية، دافعت عن الهوية الوطنية وطالبت بالاستقلال ونجحت فى معظم الأحوال فى تحقيقه بإرادة المستعمرين أيضاً الذين كانوا قد تركوا الصورة القديمة من الاستعمار ليلجوا فى صوره المعاصرة. لقد استبدلت هذه النخب وصايتها على شعوبها بالوصاية الاستعمارية. فرغم انطلاقها من منطلقات وطنية، إلا أن اتجاهاتها وأساليبها فى الحكم كانت تؤشر على اتجاه عميق بأن دفاعها عن مصالح الأوطان، وكفاحها من أجل الاستقلال يمنحها حقاً مطلقاً فى الحكم وفى فرض إرادتها السياسية. ولقد نجحت النخب التى تخلصت من هذا النزوع نحو الوصاية، فى بلورة نماذج تنموية وإصلاحية فى مجتمعاتها، أما النخب التى تمادت فى الوصاية فقد أخذت المجتمعات بعيداً عما يحقق لها التنمية والتقدم، بل أن بعضها قد أدخل بلدانه فى حروب وصراعات كلفتها كثيرًا من الأرواح والأموال. ولقد تشكلت فى رحم الحقبة الاستعمارية نخب أخرى لم تنخرط فى حركة التحرر بقدر انخراطها فى توجهات إيديولوجية وفكرية وعقدية، وسعى بعضها إلى الانخراط فى تنظيمات سياسية واجتماعية، وفى هذا الإطار ظهرت الجماعات التى تتخذ من الدين منطلقاً سياسياً للوصول إلى سدة الحكم، وقد عكست الأطر الفكرية للجماعة الأم، وما تفرع عنها من جماعات، عكست نزوعاً لا نحو الوصاية المطلقة على الشعوب فحسب، بل ونبذ هذه الشعوب واتهامها بالجهالة والكفر، فقد باتت تركن فى خطابها وممارستها إلى مفاهيم وتوجهات تنأى بها عن مفاهيم الوطنية والمواطنة والمدنية وكل ما يتعلق بالوطن، ولعل صور الوصاية التى تتوالد عبر ممارسات وخطابات هذه الجماعات تكون من أقسى وأشد صور الوصاية وطأة، فهى أشبه بالوصاية الدكتاتورية أو الشمولية التى يموت الشعب فيها إذا لم يسمع الكلام. وإذا كانت كل هذه صور من الوصاية التى تتراكم على كاهل المواطن العادى عبر الزمن، وفى السياق التاريخى الذى يعيش فيه، فماذا عسى أن يكون سلوك هذا المواطن؟ وماذا عسى أن يكون رد فعله تجاهها؟ لاشك أن هناك أفراداً يدركون هذه الصور من الوصاية، بل ويعملون على مقاومتها؛ ولكن جل الناس قد تعلموا هذا النوع من السلوك الذى تسرب إلى نفوسهم وإلى عقولهم عبر منصات التنشئة التى تربوا فيها، الأسرة والمدرسة والجامعة. بل أنهم يتعرضون لها فى تفاعلاتهم اليومية وفى استقبالهم للخطابات النازلة عليهم من الوسائط الإعلامية. من الطبيعى إذن أن ينسرب سلوك الوصاية وما يرتبط به من مفاهيم الأبوية والذكورية والتبعية والاستزلام إلى الحياة العامة والخاصة للناس، وهو سلوك يلتبس فى كثير من الأحيان بصور من الترفع والمنَّ، كما ينكشف فى الحياة اليومية: العلاقات الرأسية بين الغنى والفقير، وبين المتعلم والأمي، وبين رئيس العمل ومرؤوسيه، وبين الرجل والمرأة، وبين الكبير والصغير، بين الجار وجاره، وبين رفقاء العمل ورفقاء اللعب فتصبح الوصاية متمددة فى جسد الحياة اليومية. وقد يذهب القارئ الكريم عند هذا الحد إلى القول: وماذا بعد؟ وأين المشكلة فى هذا السرد؟ وأجيب بأن أكرر ما بدأت به من أن هناك صورًا إيجابية من الوصاية؛ تلك هى الصور التى تشى بالرعاية والحماية والحنو والاندماج فى الروح العامة فى ضوء علاقات المواطنة والمدنية؛ هذه الصور التى نجدها فى الأسرة وربما فى علاقات الجيرة، أو حتى التى نجدها من بعض النخب السياسية التى تدافع عن حقوق الوطن وترعاه. ولكن لب المشكلة يكمن فى أن خضوع الناس لصور من وصايات هرمية تتدرج فى اركولوجية تمتد من التاريخ إلى الواقع المعاصر، مروراً بصور أخري، نقول إن هذا الخضوع يخلق صورا من الاستحواذ والاستبعاد ويدعم أشكالاً من الرقابة السلبية على سلوك الناس ومصائرهم، رقابة تخلق منهم بشراً خائفين يراودهم الشك والقلق وتتملكهم مشاعر عدم الثقة وعدم اليقين. لمزيد من مقالات د.أحمد زايد;