كان منهم- من رجال الشرطة الذين ارتوت بدمائهم الزكية رمال صحراء الواحات- من توضأ وأدى صلاته قبل أن يغادر بيته صباحاً. أُزهقت أرواح هؤلاء زوراً وبهتاناً باسم الدين الذى كانوا يتلون آياته ربما قبل ساعات أو دقائق من قتلهم. بيقين كان منهم من قبّل جبين أطفاله وهم نيامٌ واستودع زوجةً شابة أو أماً طيبة ثم أغلق باب منزله ومضى، وجاء المساء فلم يعد. وربما كان منهم أيضاً من كان ينتظر مطلع الشهر الجديد لكى يقبض راتبه ويسدّد نفقات أبنائه الصغار فجاء مطلع الشهر الجديد لكنه- هو- لم يجئ. أما نحن الذين كنا نتابع آخر أنباء المشهد الدامى من قناة فضائية لأخرى أو من موقع إلكترونى لآخر فماذا كنا لنشعر لو أن أحد أبنائنا أو إخوتنا كان من بين هؤلاء الضحايا؟ هى أشياء لن يشعر بوطأتها أبداً مثل الذين تيتموا وترملوا مهما أوتينا نحن من بلاغة. تكرّر المشهد الموجع الحزين ذاته مراراً من قبل وها هو يعيد نفسه بدماء جديدة وآلام جديدة، ربما الأسئلة وحدها تبدو معادةً. من أين يأتى هؤلاء البرابرة الجدد وهذه المسوخ البشرية التى تستحل دماً بغير حق وروحاً بلا جريرة شخصية؟ سلسال الدم النازف لا يكف عن طرح أسئلته الجديدة القديمة. السؤال الذى يُلح عليّ هو كيف تُطهِرنا هذه الدماء الزكيّة وكل الدماء الأخرى التى أُريقت غدراً وخسّةً قد يبدو سؤال التطهر غريباً غير مألوف. ربما كان مزيجاً من مراجعة الذات والندم والتوبة. ربما كان صرخة النفس اللوّامة الصادرة من الأعماق. ففى كل ألم كبير وحزن غائر ثمة شعور ما غامض لا يمكن وصفه يدفعنا إلى التطهر والتخلص من أخطائنا وأدراننا. وقد آن لنا جميعاً أن نمر بهذه التجربة الفريدة التى تتطلب قدراً هائلاً من الصدق والشجاعة والتسامي. أول من يحتاج إلى التطهر وإعلان التوبة هم أولئك الذين يقتلون ويسفكون الدماء وينسلخون من آدميتهم. لكن هل يمكن لهؤلاء حقاً أن يتطهروا؟ ربما فعلها (البعض) فى مصر منذ سنوات حين ألقوا السلاح وكفوا عن العنف وكتبوا المراجعات. لكن كم شخصاً بخلاف رجل مثل ناجح إبراهيم وقلةٌ قليلة غيره امتلكوا صدق الذات وشجاعة المراجعة وفضيلة الاعتراف بالخطأ والقدرة على السمو والتطهر؟ ربما يرى البعض أنه من البراءة بل السذاجة الاعتقاد بأن بإمكان هؤلاء أن يتطهروا من غيّهم. الاعتقاد مبررٌ ولا يخلو بالطبع من منطق بقدر تجرد الإرهابيين أنفسهم من كل منطق وقد تحللوا من كل مبدأ دينى أو وازع خلقى أو قاعدة من قواعد القتال فى الإسلام الحنيف الذى يقولون بانتمائهم إليه والسعى لإقامة دولته! لكن مهما بدت القدرة على التطهر خيالاً لدى البعض فلعلّها تصبح لدى البعض الآخر لحظة اكتشاف الجوهر المخبوء فى الروح الإنسانية. بإنزال خطاب التطهر من عليائه على أرض الواقع فهو يعنى المراجعة، والمراجعة تتطلب الحوار. وقد تحاور الله حتى مع الشيطان. ويلات الإرهاب وضحاياه من دماء المصريين وأمنهم واستقرارهم وفاقد تنميتهم يتطلب من الآخرين أيضاً قدراً ولو بسيطاً من التطهر. الإيحاءات الصوفية والروحية فى كلمة التطهر قد لا تعنى شيئاً للآخرين الذين يؤمنون بأن «الصراع» وليس «الإخاء» هو محرك التاريخ ودافع التطور. لا بأس فلنغيّر زالتطهرس بكلمة أخرى مثل الأنسنة أو الأخلاق أو العدالة ولنتساءل عمن يقف تحديداً وراء هذه القوى الإرهابية، إذ لا يُتصور أن يتسلحوا بكل هذا العتاد الحديث بدون قوى دولية داعمة، وللدعم أشكال وصور شتى. هل الحديث الدائر يقتصر على قطر وحدها أم هناك غيرها؟ وإذا كانت اليوم هى قطر فمن كان يساندهم ويدعمهم فى أوقات سابقة؟ لا يكف العالم،أمريكا وأوروبا، عن تأكيد مؤازرتنا فى مكافحة الإرهاب، لكن ألا يستطيع قمرٌ اصطناعى واحد من أقمار التجسس الغربية التى تجوب فضاءنا أن يزوّدنا بتحركات وتجمعات التنظيمات الإرهابية وهم الذين تباهوا منذ عشرين عاماً بقدرة أقمارهم على تصوير ماركة ملابس صدام حسين؟ لن أتحدث عن أزهى عصور صناعة السلاح وتجارة الدمار فى العالم الغربى وأسواقها النهمة المزدهرة فى بلاد العرب ولكنى أقول فقط إنه لو صحّ أن هناك دولاً قادرةً تحجب عنا ما تمتلكه من معلومات أو تضن علينا بأجيال متقدمة جديدة من أجهزة الرصد والمراقبة، أو أن هناك دولاً اخرى تحرك التنظيمات الإرهابية بجهاز تحكم عن بعد فهذا يعنى أن مصر تخوض المعركة وحدها. هذا يعنى أن هناك أطرافاً دولية تحتاج إلى أن تراجع نفسها وتُخلص نياتها فى الحرب على الإرهاب. نحن أيضاً أفراد ومجتمع وإعلامً مدعوون لفعل شيء ما يتجاوز التنديد وارتداء ملابس الحداد. لابد من تأسيس صندوق مالى يتكفل بالرعاية المادية لكل أبناء الشهداء من ضحايا الإرهاب. صندوق يقدّم لهؤلاء بشكل كريم ومخطط ودائم إعانات مالية كافية وليست رمزية. هناك أطفال يتامى وزوجات شابات أرامل يحتاجون إلى الكثير. فليكن تعليمهم فى أفضل المدارس والجامعات مجاناً بلا أية رسوم من أى نوع كان. لتقدم لهم الرعاية الطبية الشاملة والكريمة فى أفضل المستشفيات. لتُمنح لهم الاستثناءات المقنّنة فى الوظائف. ليقدم لهم القطاع الخاص أيضاً مبادراته ومساعداته. لا يكتمل التطهر أيضاً بغير مراجعة أمينة وشجاعة وذكية لأدائنا المهنى ولوازمه ومتطلباته فى مواجهة إرهاب خبيث وخسيس يُجيد التخفى والتقنع ويخرج علينا من حيث لا نحتسب أحياناً. لو صحّ بالدليل أن هناك مسئولية أفراد أو جهات لأن التحقيقات ما زالت جارية حسبما أعلنت الدولة فليأخذ القانون بالطبع مجراه. مجرى القانون الرادع الحاسم معروف فى كل زمان ومكان، فلتطبق أحكامه بكل شدة وحزم على كل من ارتكب عنفاً ولو كان جرح إصبع وليس فقط جريمة إرهابية. السياسة بدورها- ولأنها سياسة- مطالبة بأن تضطلع بدور ولو كان ثقيلاً وبغيضاً إلى النفس. ربما يسعى البعض إلى فرض واقع توازن العنف على طريق بلا نهاية لكن يجب علينا نحن أن نصنع له نهاية. يجيد الإرهابيون فنون حرب العصابات والكر والفر والتفجيرات المفخّخة عن بعد، وهذه أكثر الأساليب إرباكاً وإنهاكاً لأقوى جيوش وقوى الأمن فى العالم. عانت بريطانيا كثيراً وقاست الأهوال مثلنا فى مواجهة إرهاب الجيش الجمهورى الإيرلندي. وبعد زمن طويل من المواجهات الأمنية والملاحقات القانونية جربت بريطانيا السياسة وكسرت سلسال الدم النازف. أعرف أن الفارق يبقى قائماً والظروف والسياقات مختلفة بين الحالتين المصرية والبريطانية لكن تظل السياسة بحكم التعريف والغاية قادرة على حل أصعب التناقضات، أو بالأقل تخفيفها، أو بأقل القليل تحييدها. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم;