فاجأني مجموعة شباب تشرح القلب وتسر العين« كما كانت تقول جدتي لأمي وقد جاءوا علي غير موعد بسؤال توقعته من أمثالهم ومن هم في مثل سني عمرهم.. وهي للحق أجمل سني العمر.. سني اليقظة والحلم والتفتح والشقاوة والجرأة في النقاش..وعدم الاقتناع بما يقدم لهم وما يقال لهم.. حلوا طيبا كان أم مرا علقما.. صحوا كان.. أم مطرا.. مقنعا للعقل كان.. أم محبطا للآمال! قالوا: سنعيد عليك سؤالا طرحته أنت في كتابك: »100 سنة سينما«.. السؤال يقول: أين نحن من أفلام الزمن الرائع: العزيمة + الأرض + زينب + الزوجة الثانية + فاطمة + بين القصرين + قصر الشوق + لاشين + القاهرة 30 + الماضي المجهول + أرض النفاق + تمر حنة + الناصر صلاح الدين + وا إسلاماه + المليونير + وداعا ياغرامي + البوسطجي + جعلوني مجرما + المرأة المجهولة + الطريق + شئ من الخوف + الكرنك + البريء + أعز الناس + المومياء ؟ قلت: ياه.. دا أنتم مذاكرين كويس خالص! قلت لهم: لقد نسيتم فيلما واحدا من أفلام ذلك الزمن الجميل يجمع كل ألوان الفن السينمائي والغنائي والرقص التوقيعي والموسيقي والقصة الجميلة التي تعيش فيها مع كل مشهد... بل كل لقطة في بهجة وانشراح وسعادة غامرة.. يسألونني: كل هذا في فيلم سينمائي واحد؟ قلت نعم.. ما رأيكم في فيلم «غرام في الكرنك»..؟ قالوا: آه صحيح عندك حق؟ تعالوا نستعرض معا هذا الفيلم الرائع الذي يجمع كل ألوان الفنون في عمل فني واحد... بل انه يقدم لنا أرقي ما وصل إليه الفن المصري في الستينيات وحتي الثمانينيات، وهي آخر سني الفن عندنا التي بعدها بدأت شعلة الابداع المصري في الاظلام رويدا رويدا... حتي اطفأها الغوغاء والدهماء الذين سيطروا علي الوسط الفني بفنهم الرخيص.. ممثلين «نص كم ».. وممثلات كثيرات منهن لا يملكن من ألوان الفنون إلا ما يصلح لغرف النوم... وكل ذلك بحجة أنهم نجوم شباك... وأن الجمهور عاوز كده!: (1) قصة الفيلم بسيطة وسهلة دون تعقيد ودون انفعال... فرقة فنون شعبية استعراضية غنائية راقصة... مازالت في أول الطريق... دون تمويل من أي جهة حكومية أو متعهد أو ممول أو منتج عربي أو حتي أرمني.. جمعوا كل ما لديهم واستلف البعض وكونوا الفرقة... وراحوا يتمرنون شهورا حتي جاء وقت شعروا فيه بأنهم قد آن الأوان لكي يقدموا فنهم الراقي للجمهور المصري في كل مكان... واختاروا مكانا يبعد عن القاهرة بنحو 700كيلو متر هو مدينة الأقصر أعظم مدينة أثرية في العالم.. وقد اختاروها بالذات... لأنها مكان جذب للسياح القادمين من أنحاء العالم... وسوف تقدم لهم الفرقة ملامح الفن الشعبي المصري من رقص وغناء وتمثيل. (2) وركبوا القطار أيام أن كان لدينا قطار عظيم لا يتعطل ولا يحترق بركابه ولا يخرج عن القضبان وفي القطار تحدث مفارقات وحكايات وقفشات ظريفة بطلها الكوميديان الذي لا يتكرر الذي اسمه عبد المنعم إبراهيم. (3) ولكي يكمل العمل الدرامي تتسلل قصة حب وليدة بين بطل الفيلم محمود رضا وفريدة فهمي بطلة الفرقة، وهي راقصة شعبية جديدة في الفيلم طبعا... ولا بأس من قبلة مسروقة بين الحبيبين في القطار المسافر ليلا إلي الأقصر.. تعطي المشهد بهجة وحلاوة وطلاوة.. حلاوة شمسنا.. وخفة ظلنا! (4) وفي الأقصر تنزل الفرقة في «الونتر بالاس» أحد أشهر الفنادق في العالم... ثم تبدأ رحلة التصاريح حتي تسمح مصلحة الآثار للفرقة ببناء مسرح خشبي في معبد الكرنك... ليفاجأ الجميع بأن الموظف المسئول عن التصاريح هو نفسه تحتمس أفندي الذي تشاجروا معه في القطار... فيرفض منح الفرقة التصريح المطلوب قائلا لهم: هو أنتم عاوزين تقلبوا معبد الكرنك لكباريه!. (5) ويحزن الجميع... ويمشي بطل الفرقة محمود رضا حائرا في طريق الكباش.. ويجلس تحت إحداها ويغلبه النوم يحلم حلما جميلا بدعوة مندوب الفرعون له لحفل في قصره الفاخر... وفي القصر يقدم بطل الفرقة مع فرقته فاصلا من الرقص والغناء الأصيل الذي يتحدث عن مصر الجميلة وشعبها الرائع في تابلوه غنائي راقص تتألق فيه فريدة فهمي برقصاتها المعبرة الجميلة مع كلمات أغنية. وموسيقي الرائع على إسماعيل: حلاوة شمسنا وخفة دمنا... الجو عندنا ربيع طول السنة... قمر بلدنا اللي مافيش زيه... مافيش زيه.. ينور الليل حوالينا ويفرش الألماظ عا الميه.. ويعجب الفرعون الذي هو نفسه تحتمس أفندي موظف الآثار بالفن الجميل ويهدي محمود رضا رأس نفرتيتي هدية له... فيأخذها إلي الموظف الذي لم يمنحهم التصريح الذي يطلب البوليس له بوصفه لصا... ويصحو من الحلم الجميل علي أصوات بنات الفرقة يخبرنه بأنهن حصلن علي التصريح بعد أن أضحكن تحتمس أفندي ورقصن له!. (6) نسيت أن أقول ان غراب البين الذي قام بدوره الممثل القدير كمال ياسين ابن خالة فريده فهمى في الفيلم طبعا... قبل السفر إلي الأقصر كان قد قال له كذبا انه كان يذهب مع الراقصة الجديدة فريدة فهمي إلي السينما معا... فيحاول محمود رضا بعد أن أصيب بصدمة أن يتجنب محبوبته، وهما يزوران معبد حتشبسوت في البر الغربي، حيث غني محمد العزبي لحنا رائعا لأعظم ملكة حكمت مصر. (7) وتحاول الراقصة المحبوبة الشابة أن تعرف سبب هذا التحول... ليفاجئها حبيبها بأنه لم يكن يحبها، ويطلب منها نسيان كل ما حدث بينهما!. وتنفعل المحبوبة الصغيرة، وتقرر العودة إلي القاهرة في ليلة الافتتاح نفسها بالطائرة!. (8) ولعل أجمل ما في الفيلم للحقيقة عملية بناء المسرح... بطريقة هندسية موسيقية رائعة مع كل مسمار وكل لوح خشب حتي أصبح المسرح جاهزا للعرض!. (9) وفي الطريق إلي ليلة الافتتاح تركب الفرقة الحناطير، وتقدم أغنية رائعة مع رقصات في الشارع علي وقع خطوات الخيل وتصفيق المارة... في أغنية مازالت حية حتي يومنا هذا تقول كلماتها: الأقصر بلدنا... بلد سواح فيها الأجانب تتفسح.. ولما ييجي وقت المرواح... تبقي موش عاوزه تروح... وتسيب بلدنا لوحة جمالية موسيقية راقصة مع أغنية تتحدث عن أمجاد مصر أيام كان لها أمجاد وطيبة أهل مصر في أعظم مدينة أثرية في العالم!. (10) وتكتشف المحبوبة سر تغير حبيبها من كذبة ابن الخالة فتلغي السفر.. ويعرف الحبيب أن حبيبته له وحده فيعودان إلي سيرة حبهما ويقدمان أجمل رقصات ليلة الافتتاح الناجحة.. في تابلوهات شعبية راقصة تصور عادات مصر وتراثها الشعبي الأصيل الذي نسيناه.. ولكنه لن يموت أبدا!
يسألونني: هل من الممكن أن ننتج فيلما مثل غرام في الكرنك هذا الآن؟ قلت: صعب جدا.. بعد رحيل كل نجوم الفيلم بالموت أو بالكبر.. أو بالاعتزال.. ولا يوجد لدينا نجوم أو نجمات يصلحن الآن لمثل هذه الأفلام الاستعراضية الجميلة. ولا موسيقيين ولا حتي مطربين. وبعدين فيلم زي ده يتكلف أكثر من 500 مليون جنيه.. إذا اعتبرنا أن أسعار نجوم هذه الأيام أصبحت بالملايين مثل عمنا وصديقنا العزيز عادل امام الذي يأخذ في المسلسل الواحد 70 مليون جنيه.. وبطل يعمل أفلام! قالوا: ياخبر 70 مليون جنيه حتة واحدة؟ قلت: ربنا يزيده هو يستاهل أكتر.. وبعدين من أين نأتي بمحمود رضا آخر وفريدة فهمي أخري.. ومخرج عبقري مثل الخال علي رضا؟ قالوا: واللا موسيقي وألحان الفيلم.. من أين نأتي بعبقري آخر مثل المايسترو علي اسماعيل؟ قالوا ضاحكين: خللونا مع الأكتع وأبورجل مسلوخة، واللا مطربين آخر الزمان إللي ربنا ابتلانا بيهم.. والمطربات اللي بيخوفوا بيهم العيال آخر الليل عشان يناموا من غير عشا!.. بعد ما الدنيا بقت نار في الأسعار! قلت لهم: ياه دا انتم مليانين ومعبيين زيّّي.. علي الآخر!.. يسألونني: ألم تقابل في حياتك الصحفية المليئة بالأحداث والشخصيات.. أيا من أبطال هذا الفيلم الجميل؟ قلت لهم: قابلت.. يسألونني: من؟ قلت: البلبل الصداح الذي اسمه محمد العزبي.. يسألونني: وماذا قال لك؟ قلت لهم: دعوني أتذكر.. لقد كان محمد العزبي حريصا علي حضور حفلات مجلة علاء الدين مجلة الاطفال الاولى عربيا ولو كره الكارهون باعتراف مؤسسة هورايزون للأطفال في لندن وكنت أنا رئيسا لتحريرها.. وتركتها وهي توزع 76 ألف نسخة أسبوعيا.. وأسألوا عمنا ابراهيم نصر مدير توزيع الأهرام أيامها.. نعود إلي عمنا محمد العزبي أجمل صوت شعبي بعد عمنا محمد عبدالمطلب وعمنا محمد الكحلاوي والخال محمد رشدي.. الذي غار منه عبدالحليم وطلب من عمنا وصديقنا الشاعر العظيم عبدالرحمن الابنودي أن يكتب له أغنية مثل أغنية عدوية وأغنية تحت السجر ياوهيبة.. فكتب له أغنية وموال: أنا كل ما أقول التوبة.. ترميني المقادير! قال محمد العزبي: انهم أمضوا أسبوعا بحاله أمام معبد حتشبسوت في البر الغربي للأقصر.. لكي يصوروا أغنية للملكة حتشبسوت.. أما أغنية: «الأقصر بلدنا.. بلد سواح» فقد استغرقت هي الأخري ثلاثة أيام تصوير وعرق وصبر! .................... .................... إيه.. كانت أيام وراحت وراء الشمس ودقى يامزيكه!{ هل توقفت أمنا مصر عن الإنجاب؟.. هل غابت شمس مصر الولود الودود واظلمت الدور وانطفأت مصابيح العشق والحب والفن الجميل؟ Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدني