العلاقة بين السينما والمجتمع فى مصر علاقة معقدة جداً، تسير فى الغالب على العكس تماما مما تعارفت عليه الأمم التى تتشابه مع مصر فى عمق تاريخها السينمائي، ففى تلك الدول خصوصاً الولاياتالمتحدةالأمريكية تعكس السينما توجهات المجتمع، وتتأثر بتحولاته الكبرى، وتعالج مشكلاته الجوهرية انطلاقاً من الواقع، وليس من خلال تجاوز الواقع، أما فى الهند فالسينما تقوم بدور سياسى رائد فى تحقيق تمازج الأديان والأعراق، ونشر قيم التسامح، وقبول الآخر، وبناء الهوية الهندية الواحدة، وبالرغم من انتشار الخيال فى السينما الهندية فإن هناك أفكارا مركزية مهمة تتحقق من وراء هذا الخيال الجامح. أما فى مصر فقد لعبت السينما هذا الدور عندما كان للدولة رؤية ثقافية مركزية، وكانت هناك خطة محددة للفنون والآداب، وكانت السينما تحقق تلك الخطط والأهداف من خلال توظيف الفن بكل صوره وأشكاله، أما حين تركت الدولة صناعة السينما للقطاع الخاص الذى يسعى فقط للربح، والربح السريع المبالغ فيه، دخل مجال صناعة الوعى تجار وطامحون ومغامرون ومقامرون بكل شىء حتى هوية المجتمع وأخلاقه ومستقبل شبابه، كل شىء قابل للانتهاك والتدمير مادام ذلك يؤدى إلى زيادة التوزيع. وفى خضم السعار اللاهث وراء الربح صارت القيمة الوحيدة فى المجتمع هى المال، وماعداها قابل للبيع، أو للتضحية، أو للانتهاك فى سبيل الحصول على المال، والمال هنا يأتى من تقديم ما يجذب المستهلك، وما يشبع غرائزه ورغباته الوقتية دون النظر إلى ما هو أبعد من اللحظة الحاضرة، وهنا يصبح شباك دور العرض السينمائي، والإعلانات هما المعيار الوحيد لتحديد جودة المنتج الفني. ومع تدهور الحالة الثقافية فى مصر، وانتشار الأمية الكتابية والأمية الثقافية، صار الإنتاج السينمائى والتليفزيونى يلهث لمواكبة الواقع المتدهور، وبدلا من أن ينتشل ذلك الواقع من حالته الدنيا، ويرتقى به إلى مقامات أعلى فى المكانة الإنسانية، والى موضع أعلى فى الرقى الاجتماعي، بدلا من القيام بهذه المهمة النبيلة التى وجد الفن أصلا ليقوم بها، للأسف قامت صناعة السينما والإنتاج التليفزيونى فى مصر بالعكس، فقد أوغلا فى التدهور لمواكبة احتياجات الشباك والإعلانات، وإرضاء أذواق متدهورة بصورة مستمرة هنا جاءت شخصية اللمبي. ظهرت شخصية اللمبى فى فيلم الناظر 2000، وبعدها فى فيلم اللمبى 2002، وكانت بداية لبروز ظاهرة جديدة فى مصر، وهى ظاهرة الاحتفاء بالبلاهة والجهل، وتحول الأبله، مصدراً للضحك والقهقهة العالية، ووسيلة للترفيه، ثم انتشرت هذه الظاهرة لتعم كل جنبات الحياة. كان نتيجة كل ذلك أن صار نمط حياة الفئات الدنيا ثقافياً فى المجتمع هو القدوة والنموذج والأسلوب الذى يقلده المتعلمون والمثقفون وأبناء الطبقات الوسطى والعليا، فلكى تكون «جدع» أو جذابا أو «كول» عليك أن تقلد هؤلاء فى طريقة الكلام، وفى العبارات، وفى الشتائم، وفى الألفاظ السوقية وهنا انهارت منظومة الإتيكيت فى المجال العام، وأصبح طبيعياً أن تسمع ألفاظاً فى التليفزيون أو السينما كانت تلك الألفاظ خادشة للحياء من وقت قريب، وكانت تعبر عن دونية من يتفوه بها، بعبارة أخرى حدثت حالة تدهور فى الخطاب الثقافى العام، وانتقلت تلك الحالة إلى التعبير الأدبى والروائي، ومن ثم إلى الإنتاج الفنى فى السينما والتليفزيون، ودخلنا فى متوالية من التدهور الثقافى لا تظهر لها نهاية. يكفى أن تنظر إلى المتحاورين فى البرامج التليفزيونية، وترى طريقة الكلام، وأسلوب تحريك الشفاه وحركات العيون، تجد هناك هوسا بتقليد لغة الصنايعية وأبناء الكيف، ينطبق هذا حتى على مقدمى البرامج الدينية والسياسية الجادة، الجميع يحاول أن يقلد لغة الجسد عند البلهاء من البشر، وكأن ذلك صار وسيلة للإقناع، أو إثبات أن المتحدث «ولد صايع ما «حدش يقدر يغلبه» بلغة هؤلاء، ومن يقلدونهم. هنا صار المجتمع يحتفى بأدنى فئاته ثقافياً وأخلاقياً، فبدلاً من الارتقاء بهم لمستوى أخلاقى وقيمى يجعلهم فى موقع أفضل، نزل المجتمع ومثقفوه إليهم ليعيشوا معهم فى الدرك الأسفل من القيم والعادات والأخلاقيات، والأمر لا يتعلق بالغنى أو الفقر، ولا بالتعليم والأمية، بل يتعلق بمنظومة القيم، ومراعاة قواعد السلوك المرعية التى يسمونها «الإتيكيت» ويكفى أن نعود للسينما المصرية من الثلاثينيات والأربعينيات حتى ستينيات القرن الماضى لنعرف كيف كانت لغة وطريقة تعامل الخادمة والبواب والساعي، الفلاح، وكل فئات المجتمع، الجميع كان يتعامل بلغة راقية وتعبيرات وجه راقية، وأسلوب راقٍ، ولم يكن هناك من يتكلم بهذه اللغة وتعبيرات الوجه التى نراها فى الفضائيات المصرية، والأفلام المصرية إلا الأشقياء والمجرمون داخل السجون، أو فى مخابئهم. كنا مجتمعا راقياً فى الملبس، وكنا نفرق بين ما يلبس فى الأماكن العامة، وما يلبس فى البيت، كان من المستحيل مقابلة ضيف بملابس النوم، نحن اليوم نعيش فى حالة انعدام احترام الذات فى الملبس والكلام وطريقة التعامل، تلك الحالة أفقدت المجتمع مفهوم الإتيكيت، فلم يعد هناك قواعد عامة للسلوك فى المجال العام والأماكن العامة فهل يمكن أن يكون هذا الموضوع على أجندة وزارتى الأوقاف والثقافة. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف;