الأسبوع الماضى كتبت عن انتصارات أكتوبر 1973، وكانت عينى على أهم معركة خاضتها مصر خلال السنوات الثلاث الماضية، وهى معركة نهر النيل بكل أبعادها المحلية، سواء فى دول الحوض أو على الصعيدين، الإقليمى والعالمي، وكنت أدرك صعوبة الحديث حولها، متذكرا الجلسة العلنية التى عقدت لمناقشة سد النهضة الإثيوبى فى فترة حكم الإخوان المسلمين! وكيف كانت مصر وحكومتها ونخبتها فى ذلك الوقت أضحوكة العالم، فقد ظهرنا بالصوت والصورة، وكأننا دولة ولدت بالأمس، نتخبط، ولا نعرف كيف نفكر أو من نكون، وما مدى قدرتنا على إدارة الصراعات الجسيمة المؤثرة فى مستقبل البلاد! وساعتها تذكرت حواراً دار بينى وبين ميليس زيناوى رئيس وزراء إثيوبيا الراحل، ومهندس سد النهضة، فى أثناء قمة إفريقية - فرنسية، عقدت فى (كان) بباريس منذ سنوات، والذى قال لى إنه لا يعرف لماذا المصريون قلقون من سد النهضة، ونحن نحرس النيل للمصريين، ونتطلع إلى تعاون إثيوبى مصري، يتناسب مع طبيعة أننا إخوة، وأن تربة مصر الطينية الخصبة، أصلها إثيوبي؟ وتذكرت كذلك زيارة إلى منابع النيل فى بداية حياتى الصحفية، مع أبرز خبراء الري، الوزير الراحل، صديقى د.عبدالعظيم أبوالعطا، وشرح لى كيف أن المنحدر ومسار النيل يمنع أى فرد أو أى عمل يمكن أن يؤثر على كمية المياه المتدفقة فى النيل إلى مصر، وقابلت الأهالى الإثيوبيين المحيطين بالنهر، وكان كلامهم أن المياه يجب أن تصل إلى مصر، وهذه هى وصية الخالق، وليس الأجداد فقط، وإننا إذا حاولنا التقليل من تدفق النهر، سوف يدفع أولادنا ثمن نقمة الخالق، لأننا منعنا هبة الخالق أو ما ليس حقاً لنا. هكذا قال الإثيوبيون الذين قابلتهم منذ أكثر من ربع قرن. فالمصريون هم أول من نظموا المياه، وهم أول من أقاموا السدود على مسار النهر، ولم يكن أول سد هو العالي، سد ناصر فى الخمسينيات، ولكن كان هناك سد آخر هو سد أسوان، بناه الخديو عباس حلمى الثانى ما بين عامى (1899- 1906)، ومن السدود الأخرى سد أوين فى أوغندا، والفولتا بغانا فى الستينيات، وشاركنا فيه، كما بنينا على النيل سداً فى السودان فى جبل الأولياء فى عام 1937، واستفادت منه دولة السودان فى تخزين المياه لرى مشاريع النيل الأبيض. ومازال سؤالى لخبراء الرى المصريين يرن فى أذني، هل يمكن مع تطور التكنولوجيا أن يأتى جيل يبنى سدوداً تمنع تدفق النهر؟ فكانوا يبتسمون، ويقولون: هذا لن يحدث فى إفريقيا، فالناس على مسار النهر لا يحتاجون للمياه، فالأمطار تسقط طوال العام، وهم يزرعون أراضيهم بمياه الأمطار، وأنهم إذا احتاجوا للسدود، فمن أجل الكهرباء، ويجب أن نساعدهم فى ذلك لإحداث تطور فى كل الدول الإفريقية! وبالرغم من ذلك فإن التطور التكنولوجى يسير فى اتجاه عدم إقامة السدود فى المستقبل، وأن آخر السدود سيكون سد النهضة الإثيوبى الحالي، لأن الكهرباء أصبحت لها مولدات أقوي، سواء من الشمس أو الطاقة النووية، وأن عصر السدود بتأثيراتها البيئية الخطيرة سينتهي. أزمة سد النهضة قاربت على الانتهاء، وسيأتى رئيس الوزراء الإثيوبى إلى مصر ليعلن ذلك، مع ضمان تدفق المياه، وهذا حق طبيعى لمصر منذ بدء الخليقة، وليس هبة أو مساعدة من أحد، ولكن ما نحتاجه هو التفكير فى كيفية زيادة موارد النهر للأجيال القادمة، لأن حصة مصر الراهنة أصبحت لا تكفي! وهذه هى معركة مصر الكبرى التى سوف تكتب للجيل الحالى بأحرف من نور، وستكون واضحة أن مصر أدارت صراعاً أو للحق عملاً خلاقاً، يشهد له التاريخ، مع تلافى الأخطاء التى نجمت ما بعد عام 2011، واستغلت الأوضاع الصعبة التى ألمت بالبلاد سياسياً واقتصاديا، وظهر أعداؤنا، والذين حاولوا الاستفادة من هذه الأوضاع، واعتقدوا أن مصر التى يعرفونها لم تعد موجودة على الخريطة، وأن انشغالها فى ترتيب أوراقها الداخلية قد ينسيها النيل، ولم يدركوا أن المياه لا تقل أهمية عن الأرض، لكن مصر لم ولن تنسي، وحفظت حصتها بلا ضجيج، والأهم أن المعركة حفظت لأشقائنا الإثيوبيين حقوقهم كاملة، وبما لا يضر برغبة وطموح دول الحوض فى التنمية، وهو النهج الذى تتبعه مصر فى علاقاتها مع الدول الإفريقية، خاصة أشقاءنا فى حوض النهر العظيم. وما أستطيع أن أقوله بداية: إن أزمة سد النهضة وضعت كل دول حوض النهر أمام مستقبل جديد فى عالم المياه، وأن مصر لأول مرة فى تاريخها العتيد ستحصل من كل دول حوض النيل، وفى مقدمتها إثيوبيا، على الاعتراف شبه الكامل بأن حياة المصريين تعتمد على 97% من نهر النيل، كما ستحصل على اعتراف آخر يجعلها تقوم بزيادة مواردها من النهر أمام الزيادة السكانية العالية. ولكننا سنفتح معكم فى الأسابيع القادمة عدة نقاط للمستقبل أهمها: -طرح مقترح للتكامل الإقليمى بين المنطقة فى صيغ مشابهة للسوق المشتركة، وأحد مجالات ذلك التكامل هو إدارة وتوزيع الموارد المائية بطريقة تزيد من استفادة مصر لها وزيادة نفوذها. -مشروع ربط نهر الكونغو بنهر النيل لوفرة مياه النهر وزيادته عن حاجة البلاد، هذا المشروع إذا نجحنا فى إدارته، ومصر المعاصرة تستطيع، فسيوفر لمصر 95 مليار متر مكعب من المياه سنويا، توفر زيادة 80 مليون فدان، تزداد بالتدريج بعد 10 سنوات إلى 112 مليار متر مكعب. -تنفيذ مشروعات محلية لإدارة الموارد المائية للبلاد عبر الأمطار والسيول وحفر آبار للمياه الجوفية، وإعادة تأهيل الشبكة الرئيسية للري، وترشيد استخدام المياه، ثم تحلية مياه البحر. وإذا حققنا ذلك فسنقول ربّ ضارة نافعة، وأن سد النهضة الإثيوبي، رغم مفاوضاته العسيرة كان فاتحة الاعتراف بحقوق مصر المائية، كما كان فاتحة لتطور مجرى النهر فى كل الربوع الإفريقية، وكان فاتحة تغيير فى استخدامات المصريين للمياه، بما يتكيف مع أوضاع السكان الراهنة. لمزيد من مقالات أسامه سرايا;