هل تليق الرداءة بالإنسان؟!، لقد كرم الله الإنسان بالعقل والإحساس، وبالتالي القدرة علي التمييز والاختيار، فليس هناك إنسان يرضي بالقذارة أو القبح أو الدناءة - وإن كان كذلك - فالكل يتطلع إلي ما هو أرقي إلي الجمال، حتي الإنسان الرديء يتطلع للجمال. بشكل ما، ويحتقر رداءته، فالرداءة لا تليق بالإنسان، بما أنه إنسان كرمه الله بالتمييز، فتهفو نفسه إلي النظافة والتناسق، واكتشاف الجمال في شكله ومظهره وبيئته، والأهم في أفكاره وسلوكه وردود أفعاله، فكان الجمال المدخل الرئيسي للفلاسفة، لسبر أغوار النفس ليخرجوا بقيم وأساليب حياة تليق بالإنسان، حتي يكون إنسانا جميلا! الجمال ليس كماليا، ولكنه أساس حياة، فكن جميلا تجد الكون جميلا، والفن وأربابه هم أنبياء الجمال منذ بدء الخليقة، فقبل الرسل السماوية كان هناك الكهنة والمشعوذون الذين استخدموا الفن لنشر رؤاهم البدائية، لتهذيب الناس، فالفن دائما هو الواسطة بين الفلاسفة والجمهور العريض، فالفكرة الفلسفية المعقدة والموجزة يبسطها ويفككها الفن، ويعيد تلخيصها في شكل فني، يفهمه، ويتقبله، ويستمتع به، أكبر عدد من الناس، فتشكل وجدانهم ومشاعرهم، ويتعلقون بها بمحض إرادتهم، فالفن الحقيقي ينقذ الإنسان من الرداءة، فهو دليله إلي الجمال، وفي الجمال الخير كله، فهل ينتظر أحد خيرا من القباحة؟! تعلق الناس بالفنانين ليس ترفا، أوتسلية، أو مضيعة للوقت، بل حاجة أساسية، ترتبط ارتباطا مباشرا بكل مراحل هرم (إبرهام ماسلو) للاحتياجات الأساسية للإنسان، من الحاجات الفسيولوجية، إلي حلم الابتكار وتحقيق الذات، كل المراحل تحتاج إلي الفن لإشباعها بطريقة أفضل وأجمل، فحاجتنا للفن هي حاجتنا للجمال، هي حاجتنا للحياة، فكيف يزدري البعض الفن؟ كيف يجرؤ!!! يعتز الفنان الحقيقي بموهبته، وجدارة صنعته، وقداسة دوره، في تحسين إدراك الناس الحسي والعقلي، فالفن يضيف جماليات للإدراك الحسي الأولي، الذي يدركه الناس من خلال حواسهم ويرتفع إلي تحسين الإدراك بالمعارف العميقة ولأن الفنان (محمد عبد الوهاب) يدرك ذلك لم يتجاوب مع ذلك الكاتب في أن الفن والأدب كلام في كلام بلا قيمة لأنه مع كونه فنانا موهوبا، إلا إنه مثقف كبير، يعرف طبيعة الفن في تشكيل أذواق وسلوكيات واتجاهات الناس، وإنه شريك الفلسفة في عمليات العقل من الاستنتاج والتصنيف والتجزئة والتحليل والتركيب والتلفيق، وإدراك المفاهيم الإبداعية والوجودية، وغيرها من عمليات العقل المعقدة يهضمها الفنان ويهديها للبشرية في إبداع جديد لا علاقة له بالهلس، وعندما تراجع الفن، بسبب التحريم أو الاستخفاف به، حل محله الهلس وتراجعت الأخلاقيات فالحياة لا تقبل الفراغ، ولا تستغني عن الفن! أما الفنانة الأسطورية (شادية) فأخشي أن يكون اعتزالها نتيجة لتأثر مشاعرها بهذه الآراء، التي تزدري الفن، وتعتبره لغوا غير مفيد، فمن حق الإنسان أن يختار لنفسه الحياة التي تناسبه، دون أن يحشر الآخرون أنوفهم في اختياراته الحرة، وكذلك يفعل الخير بالوجه الذي يرضيه ولا تستثني الفنانة الكبيرة من ذلك، فقط أذكرها وهي علي فراش المرض أن حياتها الفنية كانت مليئة بالخير أيضا، فكانت عنوانا لعصر وزمن فقد استطاعت أن توجد نمطا إنسانيا نادرا للمرأة لم ينافسها فيه أحد، ولا توجد فتاة مصرية لم تتأثر بهذا النمط، الذي وصفته (شادية) في برنامج للشاعر (حسين السيد)، بأنه الخفافة علي الحلاوة فتكون النتيجة اللطافة، بالفعل نمط (شادية) الفني من ألطف الكائنات! ازدراء الفن يكشف أزمة اجتماعية وثقافية كبيرة، بسبب ضعف المؤسسات الاجتماعية الرسمية القائمة علي نشر الثقافة والفنون، نتيجة للانفجار السكاني مع قلة الإمكانيات، وأيضا قصور العاملين بها عن القيام بدورهم، أو حتي الاقتناع به، لأنهم أنفسهم أبناء ثقافة التحريم، أو علي الأقل إزدراء الفن، وعدم الاقتناع بمحورية دوره في تشكيل وعي الإنسان، وتكتمل المأساة بتراجع الثقافة العقلانية لمصلحة العواطف المغيبة للعقل، وينفذ منها الجهلة وأنصاف المثقفين لعقول العامة، حسب مصالحهم الشخصية أو الأيديولوجية! وما يلخص مأساتنا مشهد الحاضرين لندوة الكاتب وهم يهزون رءوسهم موافقة وإعجابا بهذا الهراء! لم تنجح كل محاولات إزدراء الفن لمصلحة الجهل وتعظيم التخلف، فالفن صديق الإنسان ليجعل لحياته معني، فيكثف أفراحه ويخلدها في ذكرياته، ويحول أحزانه إلي شجن يتحمله في رضا، فلا تمر الحياة بلا معني كأنها لم تكن، بل يحولها لقصة حب خالدة.. فيحيا الفن والفنانين أصحاب العواطف الجياشة مع العقول الجبارة المبدعة! لمزيد من مقالات وفاء محمود;