هذه وثيقة مقترحة معروضة على «مجلس الثقافة والتنوير» برئاسة الأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، وحرف «الواو» الوارد فى تسمية المجلس يعنى المصاحبة وإذا كانت المصاحبة تنفى الافتراق فمعنى ذلك أن ثمة علاقة عضوية بين الثقافة والتنوير بحيث يمكن أن يقال «ثقافة التنوير» وهى ثقافة تشى بأن نقيضها ثقافة الظلام التى تعنى غياب النور، أى تعنى غياب العقل، أى تعنى وأده والوأد يعنى الدفن حياً، والدفن حياً يعنى الخنق، والخنق هو عصر الحلق حتى الموت وإذا كان الخنق هو الذى منه تخرج حروف الهجاء عند النطق فمعنى ذلك أن الخنق هو خنق النطق. وإذا كان لفظ منطق مشتق من لفظ نطق فالخنق إذن يعنى إبطال المنطق وهذه النتيجة هى غاية الارهاب ومسئولية المركز القضاء على إنجاز هذه الغاية فكرياً بحيث نكشف عن أبعاد هذا الإرهاب الذى يحاول الهيمنة على مسار العقل المتنور فى هذا القرن. وفى هذا السياق يحق القول بأن الإرهاب إفراز من الأصوليات الدينية المتطرفة التى تدعو إلى إبطال إعمال العقل فى فهم النص الدينى وتكفير مَنْ يعاند هذا الإبطال وقتله إذا واصل العناد. وفى هذا المعنى يلزم استدعاء فكر الفيلسوف الإسلامى العظيم «ابن رشد» لكى يكون ترياقاً لقتل جرثومة الارهاب وذلك استناداً إلى عبارته المأثورة «لايقطع بكفر مَنْ خرق الاجماع فى التأويل». وإذا كان التأويل يقف ضد الاجماع فهو بالضرورة يقف مع التعددية، وبالتالى يقف مع العقل الناقد الذى هو أساسها إلا أن الجامعة الآن تواجه مقاومة شرسة فى تأسيسها لذلك العقل الناقد. وهذه المقاومة محصورة فى عاملين: أحدهما يخص الجامعة وهو أن التعليم يقوم فيها على التلقين والحفظ، والنتيجة تحويل عقل الطالب إلى عقل منغلق على يقين يمتنع معه النقد، ومن هنا يكون جاهزاً لتلقى فكر الارهاب بلا مقاومة. وإذا ظلت الجامعة على هذا الحال فمعنى ذلك أنها تقف عند «عصر جامعة الجيل الأول» وهو العصر الذى يكون فيه التعليم محكوماً بنقل المعرفة. وإذا تجاوزته فإنها تدخل في «جامعة الجيل الثانى» التى تحصر نفسها فى تدريس التخصصات الدقيقة فتقف عند حد تلقين معلومات وتخريج بيروقراطيين. ومن هنا يكون المطلوب الدخول فى «جامعة الجيل الثالث» التى يقوم التدريس فيها على العلوم البينية التى يمتنع معها قنص الحقيقة المطلقة والتطلع إلى دفع هذه العلوم نحو وحدة المعرفة التى تتسق مع تأسيس مجتمع المعرفة الذى يساير ظاهرة الكوكبية التى تفشت فى القرن الحادى والعشرين والتى تتجاوز النزعات القومية المتزمتة إلى رحاب التداخل المترابط الذى يشى بوحدة كوكب الأرض. إلا أن هذه الكوكبية دخلت فى تناقض حاد مع الأصوليات الدينية المهيمنة منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين التى تدعو إلى إبطال إعمال العقل. والتكفير مع القتل هو جوهر الارهاب الذى يهيمن على مسار القرن الحادى والعشرين وفى هذا السياق يكون التأويل هو البديل عن ذلك الإبطال. وإذا كان التأويل يقف ضد الإجماع فالتعددية لازمة والإبداع من لزومها لأنه لن تكون ثمة محرمات ثقافية لأن الاجماع هو الذى يفرزها. ومع التعددية والابداع يكون التطور الذى لا يرحم فالبقاء للأصلح وما يتبقى يتحول إلى حفريات. هذه هى مسئولية جامعة القاهرة تجاه ذاتها وتجاه الآخرين لأنها ليست بمعزل عن هؤلاء. وهؤلاء يتمثلون فى الجامعات الأخري، وفى مؤسسات الدولة وفى مقدمتها ثلاث مؤسسات مكلفة بالانخراط فى التطوير وهى التعليم والثقافة والاعلام تحت راية «وثيقة جامعة القاهرة». وبغير ذلك يكون مصير مصر التفكك والانحلال وهذا هو التحدى الموجه إلى الوثيقة، وهو التحدى الذى يمكن بلورته فى هذه العبارة «إما أن نكون أو لا نكون». لمزيد من مقالات مراد وهبة;