على عكس الحزن المقيم فى النفوس طيلة الأشهر الماضية على وقع حوادث الإرهاب وتصاعد الغلاء وزحف الفقر، كان ممكنا للرائى أن يشهد كتلا بشرية مصرية مبتهجة ومهللة بعد أن انتهت المباراة مع الكونغو بفوز فريقهم الوطنى، ووصوله إلى نهائيات كأس العالم بروسيا العام المقبل، وعلى الرغم من الاستقطاب الحاد بين الجميع على كل الأصعدة وحول كل القضايا، كان واضحا حجم الاحتشاد خلف ذلك الفريق الكروى الذى تبدى وكأنه فرقة عسكرية فى مهمة وطنية، يجمع الكل حولها ويسعدون لإنجازها، ويحتفلون بأبطالها الذين جسدوا آيات واضحة للتفانى والإخلاص فى خدمة علم بلادهم وإسعاد بنى وطنهم. غير أن اليوم التالى مباشرة لانتصار الفريق الوطنى المصرى فى كرة القدم شهد اندلاع مباراة أخرى فى الثقافة والدبلوماسية معا، سعيا إلى قيادة اليونسكو، المنظمة العالمية المسئولة عن رعاية التعليم وتطوير الثقافة والحفاظ على الآثار فى شتى البلدان، التى تقدمت لرئاستها سيدة مصرية فاضلة هى السفيرة مشيرة خطاب، وهى دبلوماسية ذات كفاءة لا تنكر، أخفقت فى حيازة المنصب المرموق لمصلحة نظيرتها الفرنسية بعد جولات عدة من التصويت لم تستطع خلالها تجاوز الموقع الثالث بين المرشحين السبعة، فيما راوح المرشح القطرى حمد الكوارى بين الموقعين الأول والثانى، فيما اعتبره بعض المصريين خسارة أمام قطر، ودارت بينهم ملاسنات على وسائل التواصل الاجتماعى راوحت بين الحسرة على هزيمة المرشحة المصرية، والخوف من فوز القطرى، بعد فاصل طويل من اتهامات المنظمة نفسها بعدم شفافية الانتخابات، والتحيز الغربى ضد مصر لمصلحة قطر المدعومة أمريكيا وإسرائيليا، وغير ذلك من اتهامات. نجحت مصر فى بلوغ المونديال لأنها أخذت بأسباب النجاح الكروى، من اختيار مدرب منظم ومجتهد، وتوافر جيل من اللاعبين أكثر احترافية، وظروف سياسية أفضل من المونديال السابق بالذات، ويقظة عامة لدى الجميع، حتى لو اعترفنا بأن قدرا من التوفيق قد صادفنا فيما يتعلق بمستويات فرق مجموعتنا، فالتوفيق ليس مجرد ضربة حظ عبثية، بل غالبا ما يكون مكافأة استثنائية على الاستعداد والكفاح المستمرين. وفى المقابل خسرت مصر المونديال الثقافى، لأنها لم تأخذ بأسباب الفوز المطلوبة لهذا الحقل، بل اعتمدت على واقع أن المجموعة العربية (كثقافة) لم تنل حظ قيادة هذه المؤسسة، ولذا فمن الواجب أن يمنحها العالم هذه الفرصة. ومادام الأمر كذلك فليس هناك من هو أكثر تعبيرا عن الثقافة العربية الإسلامية منها، وهو أمر ظن أولو الأمر أن العرب سوف يحترمونه، وأن أعضاء المجلس التنفيذى لليونسكو سوف يقدرونه، ولكن المفاجأة التى صدمتهم أن العرب قدموا مرشحين آخرين، وأن أعضاء المجلس التنفيذى انقسموا بين هؤلاء المرشحين، ففازت المرشحة الفرنسية بالمنصب. لم يكن فى الأمر مؤامرة على مصر، بل فجوة بين رؤيتها لنفسها كبلد عريق، أسهم فى صياغة فجر الضمير الإنسانى، وتدشين مسيرة الحضارة بنصيب كبير، لا يزال يحتوى على ربع آثار العالم، ورؤية العالم لها الآن كبلد يصير باستمرار أكثر تراجعا سواء على مستوى التعليم، إذ لم تعد جامعاته مصنفة على جل مؤشرات الجودة، فيما تتذيل بعضها الآخر، أو على مستوى الثقافة التى تزداد تراجعا أيضا بفعل غياب التعددية والتنوع، ناهيك عن تراجع احترام الآخر بعد أن كان بلدا كوزموبوليتانيا تتعايش داخله الأعراق والملل قبل ثلاثة أرباع القرن. وقد يقول البعض بوجود أسباب إدارية أو قانونية، ولكن تبقى تلك الأسباب محض تفصيلات لا يلتفت إليها أحد، ففى العرف الثقافى العالمى تلعب الصورة الكلية دورها فى ترويج نموذج وإسقاط الآخر، وقد فشلنا على هذا الصعيد عندما قدمنا صورة بلد يخوض منافسة عالمية لم يحترم أصولها أو يدرك متطلباتها. بل إننا منذ وقت قليل كنا نواجه اتهامات مجلس حقوق الإنسان، على نحو استلزم دفاعات من الدولة المصرية، التى تصورت أن العالم مجبر على تصديقها، فيما استمر العالم ينظر إلينا كبلد مارق على صعيد الثقافة والمعرفة والحرية، غير لائق للمنصب، وغير قادر على إلهام الإنسانية. نعم لدينا تاريخ كبير لكن واقعنا ينتقص منه ويسىء إليه. كما أننا لم نختر الشخصية الأكثر جدارة بتمثيلنا، فمع إحترامنا للسيدة مشيرة خطاب كدبلوماسية فإن المنصب يحتاج إلى ماهو أكثر من ذلك ألم يكن ممكنا لمصر أن تبادر بترشيح شخصية عربية كبيرة كالدكتور غسان سلامة، الذى رفضت بلاده ترشيحه، بفعل غيم الرؤية وضيق الحسابات، لتضرب المثل فى تأكيد الانتماء إلى ثقافة عربية جامعة، والانعتاق من أسر وطنية ضيقة!. ألم يكن كلا الرجلين قادرا على حشد أصوات أكثر كثيرا لقيمته الذاتية؟.. ناهيك عن قيمة مصر الحضارية؟. تحدث الكثيرون عن شراء قطر الأصوات لمرشحها، ورغم اعترافنا بدور المال فى الصراع على المناصب الدولية، وإدراكنا لما تحتاج إليه اليونسكو من أموال لدعم نشاطها، وقدرة قطر على تقديم هذا الدعم، فإن المال لم يكن حاسما، بدليل النتيجة النهائية. نعم يظل المال عنصرا مهما لأى تنافس سياسى أو دور إقليمى، ولكنه ليس كل شىء، وعندما تفقده يصبح واجبا عليك أن تملك ما يناظره أو يفوقه من قيم إنسانية ورسائل ثقافية، ولكننا بدلا من السعى إلى معادلة المال القطرى برسالة ثقافة واعية، تفرغنا لمهاجمة مرشح قطر وأموالها، لندخل المنافسة دون مال أو ثقافة، بينما حيدت أوضاعنا العلمية والثقافية الراهنة قيمتنا التاريخية والحضارية. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;