ليس بجديد ولا غريب؛ كما تصور البعض؛ أن يلغى ويؤجل جزء من المعونة الأمريكية لمصر وصلت إلى نحو ما يقرب من (290) مليون دولار أى ما يوازى 5٫5 مليار جنيه مصري. فالكونجرس الأمريكى بمجلسيه (النواب والشيوخ)؛ وكذلك الإدارة الأمريكية عازمة على السير فى خيار تخفيض وإلغاء المعونة لمصر؛ دون مساس بالمعونة التى تقدم لإسرائيل والبالغة نحو (3٫1) مليار دولار ويرجع هذا الخيار إلى نحو (10) سنوات سابقة حيث الانخفاض التدريجى فى المعونة الاقتصادية بما يوازى (50) مليون دولار كل عام، إلا أن العام الأخير وبعد تولى ترامب؛ انخفضت المعونة الاقتصادية مرتين؛ مع الاستمرار فى تجميد المعونة العسكرية؛ وبين آن وآخر يتم الإفراج عن جزء من المعونة العسكرية المجمدة من أيام أوباما؛ مثلما حدث فى الإفراج عن عدد من طائرات الأباتشي؛ لدعم مصر فى مكافحة الإرهاب فى سيناء وسط تهليل رجال أمريكا فى مصر. وبعد آخر تخفيض فى المعونة الاقتصادية بنحو يصل إلى (200) مليون دولار؛ لم يعد متبقيا من هذه المعونة سوى أقل من (100) مليون دولار فقط، بينما المعونة العسكرية المقررة والتى انخفضت إلى 1٫1 مليار دولار بدلا من (1٫3) مليار دولار؛ وأغلبها مجمد، فإن السؤال الذى يطرح نفسه علينا: هل نقبل هذه المعونة المصحوبة بالإهانة والتقزيم. وأعرف أن دوائر عديدة داخل السلطة المصرية غاضبة من هذا القرار الأمريكي؛ وربما يتصرفون بناء على ذلك؛ وقد أحسنت وزارة الخارجية المصرية؛ حينما أعلنت على لسان المتحدث الرسمي؛ أن مصر لم تكن تعرف القرار الأمريكى إلا قبل إعلانه رسميا بساعات؛ وليس كما يشاع أن مصر قد عرفت بالقرار قبل إصداره بكثير وكأن مصر موافقة على هذا القرار. والسؤال المهم فى هذا الصدد هو: لماذا فرضت المعونة؛ ولماذا آن الأوان لرفضها؟ فقد تقررت المعونة الأمريكية إثر توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، وكذلك الاتفاقية المصرية الإسرائيلية فى مارس 1979، كمكافأة تشجيعية من إدارة «كارتر»، لكل من الطرفين بعد توقيع الاتفاقيات، حيث تقررت معونة لإسرائيل توازى (3٫1) مليار دولار مقابل (2٫1) مليار دولار لمصر؛ بين جزء عسكرى وجزء اقتصادي. وقد أثبتت الدراسات العلمية لهذه المعونة الأمريكية التى تقررت أنها لمصر؛ كانت مشروطة وبوضوح؛ وهو أمر يتنافى مع الاستقلال الوطني؛ وتقييد الدور الإقليمى لمصر. ولذلك فإن الوجود المصرى الفعال فى الإقليم قد تراجع بشدة على كل المستويات منذ عام 1978؛ وحتى قيام ثورة 25 يناير 2011، سواء فى أواخر عهد السادات، أو طوال عهد حسنى مبارك. بعبارة أخري؛ فإن وزن مصر الإقليمى تراجع على خلفية أوهام ومبررات رفعها منظرو نظام مبارك بعناوين مختلفة: وهل من الضرورى أن يكون لمصر دور إقليمى وطالب هؤلاء فوق هذا بضرورة الانكفاء على الذات؛ وتفادى الحروب (وكأن الطرف الذى يدعو لدور فعال وقائد لمصر يدعو للحروب)؛ والتنمية الاقتصادية الرأسمالية. وكان من جزاء ذلك كله؛ تدهور الأوضاع الأمر الذى أفقد مصر دورها وهيبتها. وبقيام ثورتى (25 يناير؛ 30 يونيو)؛ فإن الواقع قد اختلف؛ وتعالت أصوات رفض المعونة الأمريكية؛ حتى تم الإعلان عن حملة شعبية تحت شعار: «امنع معونة»؛ قد شاركت فى دعمها ووصل حجم الاستثمارات الموقعة بالرقم القومى إلى مليون مواطن؛ وكان لها أصداء كبيرة فالمعونات تتقرر من الدول الكبري؛ للدول الصغري؛ بهدف الاحتواء وتحقيق مصالحها فى الأقليم؛ ولا تقدم لمجرد ارتياح رئيسين لبعضهما على المصالح المتبادلة وبدرجات حسب مكانة الدولة. فليس بالكلام المعسول وتطييب الخواطر تدار العلاقات بين الدول. كما أنه معروف أن الإدارات الأمريكية لم تقترب من المعونة المصرية إلا بعد زوال الاتحاد السوفيتي؛ وانفراد أمريكا بالعالم فى التسعينيات؛ لأن الولاياتالمتحدة لم تعد تخشى أن تذهب مصر إلى قطب دولى آخر. ومازالت الإدارة الأمريكية الحالية رغم بزوغ روسيا كقطب دولى بعد الثورات العربية؛ إلا أنها تتعامل وكأن النظام الدولى لم يتغير، بذات العنجهية والإصرار على التخلص من التزاماتها تجاه مصر وغيرها، فى ذات الوقت الحفاظ على إسرائيل واستمرار دعمها دون نقصان لدولار واحد، فى هذا السياق، فقد آن الأوان، إلى ضرورة المبادرة المصرية الرسمية بالإعلان عن وقف قبول المعونة الأمريكية، والانتقال من مرحلة «التشاركية»، وفقا لقاعدة «المصالح المتوازية والمتبادلة»، مع تعميق العلاقات مع الشرق (روسياالصينالهند)، فى إطار علاقات خارجية لمصر تقوم على التوازن. وأخيرا؛ فإن مصر وهى تسعى لتأكيد استقلالها الوطني، فالمبادرة هى الخيار الاستراتيجى بدلا من رد الفعل. فلا يجب أن تنتظر مصر حتى يتم إلغاء المعونة الأمريكية لمصر، بقرار أمريكى مصحوب بشروط وضغوط، وإلا فلننتظر الكارثة، خاصة أنها لا تمثل 2 بالمئة من الدخل القومى لمصر، وليس فى إلغائها أى أضرار اقتصادية أو عسكرية. لمزيد من مقالات د.جمال زهران