لا خلاف على أن إقدام الولاياتالمتحدة على حجب جزء من المساعدات الاقتصادية والعسكرية المقدمة لمصر، أمر يفتقر للكياسة السياسية، ومريب فى توقيته ومغزاه، ويدل على أننا نلدغ من جحر المعونة الأمريكية للمرة الألف دون أن نضع حدا فاصلا يحول دون تعرضنا لمزيد من اللدغات مستقبلا، وندرك أن وجوه المسئولين فى واشنطن تتغير غير أن السياسات والتصورات تجاه مصر تحتفظ بخاصية الثبات مع تبدل الإدارات الجمهورية والديمقراطية على البيت الأبيض. فمصر فى نظرهم مقصرة وموضوعة دائما فى قفص الاتهام فيما يخص ملفات شائكة ومطاطية كحقوق الانسان والحريات، والديمقراطية، والحيز المخصص لنشاط الجمعيات الاهلية، وتلك هى السياط التى تلهب بها أمريكا ظهورنا بين الحين والآخر، وتدفعها لتنصيب نفسها حكما يتمتع بصلاحية محاسبة وتأنيب وتوبيخ الآخرين فى الوقت الذى تختاره. وما من شك فى أن النظرة الأمريكية ناحيتنا فيها ما فيها من جوانب القصور، والتحامل، والاختلال البين فى استيعاب وفهم ما يدور فى بلادنا وما تفعله الدولة المصرية، وتلك ليست الأزمة الحقيقية والأخطر، بل الأزمة فى كيف سيكون ردنا العملى والعاجل على سوء التقدير والتجاوز الأمريكى فى حقنا؟ الرد السهل أن تنفر عروقنا ونتشنج ونهاجم أمريكا بالقذائف الكلامية الثقيلة عبر مقالات وتغطيات إخبارية، وسيل لا يتوقف من التعليقات والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعى، وإظهار عدم حاجتنا للمعونة الأمريكية، وأنها لن تتحكم فينا ولتذهب إلى الجحيم، لكن مثل هذا الرد قصير العمر والمفعول، لأنه واقعيا يتبخر فور كتابته وتناقله بصفحات الفيس بوك. اما الرد الأصعب فهو أن نحدد ما وقعنا فيه من أخطاء ماضية وآنية دفعت الكونجرس الأمريكى لاتخاذ قرار خفض المساعدات، ونستهلها بافراطنا الشديد فى ثورة توقعاتنا مما ستصير إليه العلاقات المصرية الأمريكية بفترة ولاية دونالد ترامب، وأنها ستتخلص من العوائق التى كبلتها فى عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وارتكنا فقط للجهد الشخصى الذى بذله الرئيس عبد الفتاح السيسى، لفتح قنوات تفاهم وتواصل مع ساكن البيت الأبيض الجديد ترامب، ولم تسع مؤسساتنا المعنية بملف علاقاتنا الخارجية لإكمال الدائرة بالنفاذ للدوائر المتحكمة والمؤثرة فى صناعة القرار، مثل الكونجرس، ووزارتى الخارجية والدفاع، ووسائل الإعلام، لا سيما صحيفتى «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست». وكون الكونجرس يتخذ هذا الاجراء ليس له من تفسير سوى أنه لم تصله وجهة نظرنا فى الجوانب المطروحة واعتمد عليها لتقليل المساعدات، ولم تكن حجتنا مقنعة بالقدر الكافى، وأين كنا خلال المراحل التمهيدية السابقة على حسم أمره؟ تركنا الساحة شاغرة تمرح فيها أطراف تضمر شرا لمصر ولا تريدها أن تنفض الغبار عن ثوبها، وتنهض مخلفة وراءها حقبة من التعثر والضغوط الاقتصادية والمالية والأمنية، فقطر كانت حاضرة فى المشهد، فهى تتوق لمعاقبة مصر التى كانت أول من لفت الأنظار لدورها المشبوه فى تغذية وتمويل جماعات الإرهاب والتطرف، منذ ثورة الثلاثين من يونيو، وبعد مجهود مشفوع بالحجج والدلائل اقتنعت دول الخليج بصواب التوجه المصرى وتوحدت مواقفها لإعادة الدوحة الى جادة الصواب وعدم السير عكس اتجاه الدول الخليجية والعربية. وكان الاخوان عونا لقطر فى تحركها بمفاصل صنع القرار الأمريكى، فغايتهما واحدة وهى إيذاء مصر بأى صورة من الصور، وظنى أنها استغلت علاقتها مع بعض نواب الكونجرس ومسئولى الخارجية ومراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية التى تربطها علاقات وثيقة بالبيت الأبيض وأجهزة المخابرات الأمريكية، وبالتأكيد ان فتشنا سنعثر على ما يثبت التعاون بين الاخوان وقطر للضغط على الكونجرس لاتخاذ قرارات مناهضة للقاهرة. ولا ننسى أن نشير أيضا إلى أن اللوبى اليهودى ربما كان ضالعا فى التحركات القطرية الاخوانية، فإسرائيل لا يريحها النشاط الدبلوماسى المصرى فى القارة الافريقية واستعادتها بعضا من دورها التاريخى فيها، ويقلقها ان تنعم مصر باستقرار مع نجاحها فى لجم وتحجيم دعاة الإرهاب والتكفير والمغالاة فى الدين، وحصرهم فى بقعة صغيرة من سيناء، واحكامها السيطرة على الحدود مع قطاع غزة ومع ليبيا. كذلك يقلق تل أبيب التطوير المتواصل فى القوات المسلحة المصرية وحصولها على أسلحة حديثة تعزز من قدراتها الفائقة، وتنويع مصادرها، فلم تعد أمريكا وشركاتها قبلتها الأساسية وأضحى يزاحمها منافسون أقوياء من دول أخرى، وقد يكون التخوف الأمريكى الإسرائيلى من تزايد القوة المصرية من بين الدوافع الكامنة خلف سعى الكونجرس لتقليص المساعدات الاقتصادية والعسكرية كورقة ضغط على مصر لعدم المضى قدما فى هذا الطريق. ومن أسف أننا لم نرد الرد الوافى والشافى على حملات التحريض فى الإعلام الأمريكى الذى قادته عناصر إخوانية ونشطاء فى مجال حقوق الانسان، فهؤلاء رسموا صورة سلبية جدا لمصر، وساعدناها بحدوث بعض الأخطاء فى معالجة قضية الجمعيات الاهلية، وحبس عدد من المسئولين عنها، ولم نفصح عما لدينا من أدلة تدين نشطاء تاجروا بحقوق الانسان، وكتبوا تقارير تنضح بالتحيز وعدم الدقة المعلوماتية، ولم ندخل فى نقاش حول تعريف دقيق وجامع مانع لشعارات حقوق الانسان والحريات الصين فعلتها ، ومدى تطبيق بنودها على الجميع بدون استثناءات. الا يجوز لنا اعتبار مظاهرات الأمريكيين القوميين الداعية لجعل البيض فوق كل الأعراق المكونة للمجتمع الأمريكى مناهضة لحقوق الانسان والحرية، والا يستحق ترامب اللوم والحساب على ادلائه بتصريحات مؤيدة للعنصرية وتفوق البيض، ثم أليس من حق مصر أن تحصن نفسها من المتاجرين بحقوق الانسان ويتخذونها وسيلة ضغط على الدولة المصرية فى المحافل الدولية، فى وقت لا نسمع فيه صوت احتجاج واحد على الإجراءات الإستثنائية فى القارة الأوروبية للتصدى لهجمات الإرهابيين، وبعضها مخالف لحقوق الانسان بشكل واضح وضوح الشمس. وقد حاول ترامب - الذى توجد بينه وبين المؤسسات الأمريكية الفاعلة جفوة كانت مصر من بين ضحاياها التخفيف من وطأة ما أقدم عليه الكونجرس باتصاله هاتفيا بالرئيس السيسى، وتأكيد متانة العلاقات الثنائية، ولكن فلنكن متيقظين، لأنه ما أكثر الخدع والمقالب الأمريكية. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;