لعشرات السنين ظل سؤال الأقليات فى العالم العربى يتردد فى همس، ولم يعرف طريقه إلى المؤتمرات ومراكز الدراسات والأوراق البحثية إلا منذ تسعينيات القرن الماضي. واليوم تدق ساعة الحقيقة مع اقتراب موعد الاستفتاء الشعبى على استقلال إقليم كردستان العراق. ولعلّه انفصال لا استقلال لأن الشعوب تستقل عادة عن كيان استعمارى دخيل وغاصب، وهو ما ينتفى فى الحالة العراقية. ثمة أكثر من مدخل لمناقشة قضية انفصال الأكراد عن دولة العراق المركزية، وكل مدخل منها يمثل بعداً مطلوباً لفهم أحد جوانب القضية. 1-السياسة هى (أول) مداخل القضية، وهى للمفارقة (آخرها)، فما زالت المنطقة حتى اللحظة تحبس أنفاسها انتظاراً لتأجيل محتمل للإستفتاء على الانفصال وإقامة دولة كردية فى ظل ما تردّد مؤخراً من مطالبة حكومة كردستان الحكومة المركزية فى بغداد بعشرة مليارات دولار. يقول زعماء كردستان كلاماً عاماً عن وعود لم تتحقق وتجاهل لمطالبهم وعن قطع حكومة بغداد مخصصاتهم المالية فى الموازنة السنوية. وتقول حكومة بغداد إن كردستان كانت تحصل حتى عام 2014 على 17% من أموال الموازنة السنوية للدولة، وأنها لم تتوقف عن الدفع إلا بعد انفراد حكومة كردستان بتحصيل موارد النفط لنفسها لا سيما بعد ضخ خط أنابيب النفط إلى تركيا. هكذا تبدو مسألة إجراء الاستفتاء أو تأجيله محكومة بمواقف محلية وإقليمية ودولية. محلياً ثمة مساومات سياسية بين بغداد وكردستان تخضع ككل المساومات لقانونها التفاوضى الخاص. إقليمياً هناك إيرانوتركيا المعارضتان بشدة خشية امتداد العدوى الإنفصالية داخل حدودهما بينما إسرائيل تلعق لسانها اشتهاء للحظة الانفصال. ودولياً ثمة غموض وترقب من الدول الكبرى يصعب حتى الآن سبر أغواره برغم الاعتراض الأمريكى الظاهري. لا يمكن تجاهل هذا المدخل السياسى لفهم سيناريوهات القضية ومآلاتها لكنه وحده لا يستجلى أعماقها. والأرجح أن أى معالجة سياسية حالية لقضية كردستان العراق ستظل معالجة مؤقتة بطبيعتها وقد لا تحول بعد عدة أعوام دون تجدد المطالب ذاتها. ربما يحتاج العراقيون مثل باقى العرب إلى تعزيز أى معالجة سياسية لقضايا الأقليات بمقاربة جديدة من مدخل إنسانى حقوقي. 2-المدخل الإنساني/ الحقوقى مهم لفهم مشكلة الأقليات فى العالم العربى بقدر ما هو جزء من الحل. حسناً يرى الأكراد أن لهم حقوقاً ثقافية ولغوية وسياسية تتأسس على مظلومة تاريخية قديمة. ثمة تيار نخبوى عربى يتبنى المظلومية الكردية وصولاً إلى ترتيب نتائج سياسية معينة. ومع الاحترام الواجب لهذا التيار ولمنطلقه الأخلاقى فإن أساس المظلومية يحتاج إلى مراجعة بقدر ما أن نتائجها السياسية لا تستعصى على النقد. وابتداء فإن المدخل الإنسانى الحقوقى الصحيح للمسألة الكردية ليس هو القياس على القضية الفلسطينية. فهذا قياس مغلوط ومجحف ومؤسف كما سنرى لاحقاً. المدخل الصحيح هو الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية والسياسية الذى يسحب البساط من تحت اقدام المتاجرين بالمظلومية الكردية وبما توجبه قواعد الإنصاف الإنساني، وهو لا يعنى بحال من الأحوال بحسب المعايير القانونية الدولية ذاتها إقامة دولة جديدة. فى المسألة الكردية ينبغى التفرقة بين الحقائق والاستنتاجات. من الحقائق أن للأكراد هوية ثقافية ترتبط شئنا أم أبينا بحقوق لصيقة بهذه الهوية، ومنها أيضاً واقع ما حاق بهم تاريخياً من مظالم. لكن مسايرة الخطاب الانفصالى لكردستان العراق يوقعنا فى استنتاجات تحتاج إلى مراجعة. فمن الاجتراء والتحامل القول إن صفة الأقلية كانت بذاتها سبب ما تعرض له الأكراد من مظالم وتجاهل لحقوقهم. عموم العرب وليس الأكراد أو باقى الأقليات يجمعهم تاريخ وذاكرة مشتركة من المظالم والمطالب الإنسانية والسياسية. ولو سألت عربياً مسلماً سنياً (سمات الأغلبية) على امتداد الوطن العربى الكبير لما وجدته راضياً عن حقوقه فى المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والحرية. لا يختلف هنا عربى عن كردى أو أمازيغى أو إفريقي، ولا يختلف مسلم عن مسيحي، ولا سنى عن شيعي. فهم وحدة أو بالأقل تشابه واقع الأغلبية والأقليات فى العالم العربى لا يعنى تبريره أو تسويغ تكريسه. فهم هذا الواقع ضرورى لكى يترتب على الشئ مقتضاه. وأول المقتضيات إعمال مبدأ المواطنة بكل ما يوجبه من نتائج ولوازم. المواطنة وحدها تحمى سلطة الدولة الوطنية من الابتزاز الأجنبى بقدر ما تحمى الأقلية من إغراء (وإغواء) الخارج. يبقى السؤال هو ما إذا كان المدخل الإنساني/الحقوقى لأكراد العراق يعنى حقهم فى الانفصال عن الدولة المركزية وإقامة دولة مستقلة؟ أقصر الطرق وأوضحها للإجابة على هذا السؤال هو إعلان الأممالمتحدة بشأن الأقليات باعتباره حجر الزاوية فى المسألة الكردية. 3- يمثل إعلان الأممالمتحدة الصادر فى 1992 الصك القانونى الأممى الأهم والأبرز بشأن حقوق الأقليات، وهو إعلان يكرّس مجموعة حقوق تتمحوّر كلها حول حماية وجود الأقليات وتعزيز هويتها الثقافية والدينية واللغوية. أهم ما يتضمنه هذا الإعلان هو تهيئة الظروف المواتية لتمكين الأشخاص المنتمين إلى أقليات من التعبير عن خصائصهم وتطور ثقافتهم ولغتهم ودينهم وتقاليدهم وعاداتهم بشرط ألا تنطوى على ممارسات تخالف القانون الوطنى أو المعايير الدولية (م4-2 من الإعلان). ما ينبغى تسجيله والانتباه إليه أن الإعلان الأممى بشأن حقوق الأقليات لا يمنح الأقليات حق تقرير المصير بمفهومه القانونى الدولي. فالمادة 8 من الإعلان تنص فى وضوح على أنه «لا يجوز بأى حال تفسير أى جزء من هذا الإعلان على أنه يسمح بأى نشاط يتعارض مع المساواة فى السيادة بين الدول، وسلامتها الإقليمية، واستقلالها السياسي». وبالبرغم من وضوح نصوص إعلان الأممالمتحدة بشأن الأقليات فإن هناك من يعقد مقارنة بين القضيتين الكردية والفلسطينية وصولاً إلى تبرير استقلال كردستان العراق قياساً على المطالبة بقيام دولة فلسطينية مستقلة. تقفز هذه المقارنة المغلوطة على واقع أن الفلسطينيين أصحاب الأرض قد تعرضوا للاقتلاع من أرضهم ومورست ضدهم كل صور الاضطهاد العنصري، وما زالت اسرائيل الموصوفة (والموصومة)حتى الآن بكونها سلطة احتلال تزدرى عشرات قرارات الشرعية الدولية، وهى تمثل النموذج الوحيد المعاصر لنظام الفصل العنصرى بما لا يسوغ معه بأى معيار أو منطق المقارنة مع القضية الكردية. 4-عن المدخل القومى العربى لا أحد ينكر ابتداء دور الأكراد فى تبنى القضايا العربية والإسلامية منذ عصر صلاح الدين الأيوبي، تماماً مثلما يصعب إنكار دور مسيحيى الشام فى بلورة وتطوير الفكر القومى العربى (بطرس البستانى وقسطنطين زريق وميشيل عفلق) بل وفى إثراء الثقافة العربية ولغة الضاد بوجه خاص. والواقع أن دور هذه الأقليات فى مجمله كان جديراً بالاستيعاب والفهم من جانب الأنظمة القومية العربية. لا نكاد نجد فى الطروحات القومية العربية رؤية متكاملة واضحة للتعامل مع واقع الأقليات كرافد يثرى الفكرة العروبية وينزع عنها الاتهام بالشوفينية والأهم يحصّن تخوم الوطن العربى البعيدة عن المركز. خلاصة الأمر أنه إذا كان إعلان الأممالمتحدة لسنة 1992 يوجب حماية وجود الأقليات ويكرّس حقهم فى تعزيز هويتهم الثقافية والدينية واللغوية بما لا يعنى بنص الصك القانونى ذاته حق تقرير المصير أو المساس بالسيادة الإقليمية للدولة أو استقلالها السياسي، فهذا لا يجب أن يُنسينا أن هناك منظوراً إنسانياً/ حقوقياً واجباً، ورؤية قومية غائبة للتعامل مع واقع الأقليات فى ديارنا. فلتكن المراجعة والأمر بيدنا نحن لا بيد الغير. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم;