عَبَرَ بوابة الوطن، مشهراً جواز سفره الهولندي، لا تربطه بأصوله إلا بعض حكايات يرويها له الأب، عاش عمره الذى قارب على الثلاثين منقطع الصلة بالجذور إلا فى إجازات قصيرة، كان يقضيها كأى سائح أوروبى يأتى إلى مصر، كانت لغته العربية العامية تمكنه بالكاد من التواصل حواراً لا قراءة وكتابة، وقبل ست سنوات حملته خطواته إلى أحد المراكز الإسلامية، ليقرر بعدها الالتزام، وهكذا تدريجياً بدأ السير نحو بناء شخصيته الإسلامية عبر حف شاربه وإطلاق لحيته التى بدأ شعرها يستطيل حتى جاوز نصف رقبته، بينما بدأ (البنطلون) يقصر حتى خاصم قدمه، ثم بدأ التعرف على أحوال أمته الإسلامية حيث لقنه شيخه أن (قائداً ربانياً اعتلى الحكم فى تركيا وبدأ يسير بها نحو استعادة مجد الأمة الإسلامية وإقامة دولة الخلافة، وأن رئيساً حافظاً لكتاب الله تربع على عرش مصر وفى طريقه لأن يرفع على أرجائها راية التوحيد ليؤذن مؤذنها بحكم الشريعة ليسود وبمجد الإسلام ليعود).! حين جلس هذا الشاب الهولندى الجنسية والهوية بين جمع من الأقارب والصحب فى مصر، مرتدياً جلبابه القصير، راح يوزع على الحضور رؤاه فى الواقع مؤكداً (الجهل الشعبى بالإسلام حمل المصريين على رفض حكم مرسى تركيا تسير نحو استعادة مجد الخلافة قطر أعلنت هويتها الإسلامية ولهذا يحاصرونها حماس وحدها هى التى تدافع عن فلسطين -الجيش المصرى منذ نشأته جيش صليبى العقيدة الجيش المصرى أسهم فى إسقاط دولة الخلافة العثمانية الحكم فى مصر انقلابى ودموى وسفاح لقد صار كل المسلمين فى أوروبا الآن يقضون عطلاتهم فى تركيا دعماً للمشروع الإسلامى ويقاطعون مصر لأنها تحارب الدين) وفى نهاية حوارات الشاب الهولندى دعا الله (اللهم أبرم لأمتنا إبرام رشد يُعَز فيه أهل طاعتك ويُذَلُ فيه أهل معصيتك ويُحكم فيه بشريعتك ويُؤمَر بالمعروف ويُنهى عن المنكر)، وبين هذه الحمم الجاهلة الحارقة التى ألقاها هذا الشاب كان الجمع يبذل جهده ليوضح له حقيقة ما جَهِل، وزور ما لُقِّن، ولكن كل محاولة كانت تتم كان يواجهها صاحبنا بابتسامة ساخرة قبل أن يهز رأسه بأسى وهو يقول (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وشخصياً اكتفيت بالمراقبة المتأملة فلقد التقيت فى حياتى السابقة بعالم الإخوان شخصيات مماثلة لكن التطور فى صناعة التطرف جعلت منتجه الجديد أكثر جاهلية واستعلاءً وتحصناً ضد أى محاولة لفتح آفاق الفهم. كان عليَّ أن أفتش فى أسباب التكوين التى عملت ماكينتها على إعادة صياغة الشخصية بما يحملها على إلغاء قرون من التطور الإنسانى لتطرح إنسان عصر البداوة الإسلامية بكل سماته الشكلية والعقلية، وقادنى البحث إلى نموذج تنظيمى غير أزهرى غادر مصر نهاية تسعينيات القرن الماضى إلى ألمانيا، ليعمل فى أحد المراكز الإسلامية، وراح يتدرج فى أطر النشاط حتى صار رئيساً للمركز الإسلامى وإمامه ومنسقاً عاماً لرابطة الأئمة فى أوروبا، ومحاضراً يجوب أوروبا ليهدى المسلمين إلى إسلامه، ومدرباً يدرب الشباب على الإمامة والخطابة وتعليم أسس الدين الإسلامى كما يعرفه، ومنظماً لفعاليات متنوعة دورية فى كل الدول الأوروبية وبعض الدول الإفريقية، لا تستثنى مرحلة عمرية من استهدافها، فهو ورجالات تنظيمه يتحركون فى أوساط الأطفال والشباب والكهول، يتقلبون بين الجميع وعلى رءوسهم عمامات الأزهر وعلى أجسادهم عباءاته، وفى عقولهم جراثيم الدين التنظيمى ينشرونها بين صفوف المسلمين فى أوروبا خاصة الشباب. وأفتش فى أوراقى لأكتشف أن صياغة شخصية هذا الشاب الذى كان الحوار معه، بدأت رسمياً يوم 26 مايو 1984 حين وضع التنظيم خطة لحركته فى بريطانيا تحديداً لاتختلف عن باقى الأقطار الأوروبية كثيراً-، فبحسب محضر اجتماع لجنة الدعوة والجاليات حددت الخطة أهدافاً رئيسية هى (عمل إحصائية تفصيلية عن المسلمين فى بريطانيا -التركيز على اللغة الإنجليزية فى الدعوة بين الجاليات غير العربية -التركيز فى الدعوة على الأبناء أكثر من الآباء -نشر الفقه الإسلامى بين الجاليات -تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها -البدء أولاً بالعمل مع المراكز والجاليات التى للإخوان علاقات معها -إيجاد نوادٍ للشباب، واستحداث أنشطة تواكب تطورات العصر لجذبهم إليها)، وعقب هذا الاجتماع وتحديداً فى 1989 تم إنشاء (اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا) ليكون المناظر التنظيمى لمكتب الإرشاد بأقسامه والمظلة الجامعة لجميع مؤسسات التنظيم، هكذا ببساطة بدأ العمل وما نموذج الإمام التنظيمى سالف الذكر إلا نقطة فى بحر تنظيمى يموج بالنماذج التى تتحرك على الأراضى الأوروبية والأمريكية لتعيد تقديم الإسلام التنظيمى وتلقين تعاليمه لخلق أجيال من مواطنى التنظيم القادرين على الحركة متحصنين بجنسياتهم المنتسبة للعالم المتحضر، والرافضة لكل مكونات واقعنا كعالم ثالث فرط فى دينيه ومقدساته وعليه أن يعود إلى حظيرة الإسلام بالاختيار أو الجبر! إن الواقع الأوروبى الحالى يؤكد أن بلدان القارة باتت محاضن آمنة لصناعة المتطرفين والإرهابيين فى ظل حالة رعاية أمنية مقصودة لكيانات الصناعة من جهة، وتعمد تجاهل مؤسسة الدين الإسلامى الوسطى الرسمية (الأزهر) من جهة أخري، وهو ما يدعونا إلى دق ناقوس الخطر فى وعى الإنسانية، فالإسلام الذى يتم تسويقه غرباً باعتباره صحيح الدين، ما هو إلا دين تنظيمى تسرى جراثيمه عبر مدعين يرتدون زى الأزهر بقصد الحصول على صك الاعتماد الجماهيرى والرسمى باعتبارهم دعاة وعلماء، ويكون من الانتصار للإنسانية أن نطالب أوروبا بإعادة النظر فى استراتيجية استخدام التطرف لتحقيق مصالحها، ومن الانتصار للإسلام أن نطالب الأزهر بأن يعمل سريعاً على إعادة تفعيل هياكله لمواجهة علل الواقع المزمنة، ومن الانتصار لأوطاننا على أجهزتنا الأمنية أن تدقق فى الوافدين إلينا من أوروبا قبل أن نستيقظ على جيوش إرهابية تصدرها لنا أوروبا. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى;