منذ أن أعلن الأمير فيليب - زوج الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا – اعتزاله العمل العام عن عمر 96 عاما وعقب 65 عاما من المهام الملكية، بدأت الأقاويل عن قرار وشيك بتخلى الملكة ذات ال91 عاما هى الأخرى عن العرش لصالح وريثها الأمير تشارلز. وترددت أنباء أيضا عن تحديث موظفى القصر الملكى لخطط التحرك فى حالة وفاة الملكة وإدارة عملية توريث العرش، خاصة أن إليزابيث عانت أخيرا وعكات صحية ألزمتها بتخفيف جدول مهامها. كل ما قيل جدد جدلا لا يغيب أبدا حول فرص استمرار الملكية البريطانية التى تحظى حاليا بأعلى معدلات التأييد الشعبى منذ حقبة الحرب العالمية الثانية، والتى يزداد أيضا تربص معارضيها بها على غرار ما يعرف ب«الحركة الجمهورية» التى تعقد المسيرات والاجتماعات للمناداة بالتحول عن الملكية الدستورية، إذ أعلن مسئولوها أخيرا أن وفاة الملكة سيشكل الفرصة الأنسب لإجراء استفتاء شعبى حول تحول المملكة المتحدة إلى النظام الجمهوري. وبالتزامن مع ذلك، تقوى شوكة الحركات التى تطالب بالانفصال عن التاج البريطانى فى كل من كندا وأستراليا، وتربط التنفيذ بوفاة الملكة أيضا. الواقع أن تجربة الملكية البريطانية تقدم جانبا كبيرا من إجابة السؤال الذهبي، وهو : كيف تمكنت بعض الأنظمة الملكية من النجاة بنفسها أمام تصاعد المد المطالب بمنح الحكم للشعوب، والذى سواء انتهى بديمقراطية حقيقية فى بعض الأحيان أو حتى القبول بنسق شبه ديمقراطي، إلا أنه عفىَ ومستمر فى ثوراته؟ يلاحظ أن الملكية البريطانية التزمت ببعض الخصائص حققت لها الاستمرارية حتى الآن رغم أن ما واجهته من تحديات وجودية لم يكن هينا. وأولى هذه الخصائص، تدعيم فكرة الرمزية المرتبطة بالنظام الملكي، ويقصد بذلك أن النظام الملكى عادة ما يشكل رمزا رئيسيا فى سياق الثقافة الشعبية والذاكرة الجماعية لمواطنيه، والأهم من تحقيق الرمزية تجديدها الدائم بالإدراك المستمر لتطورات الواقع الاجتماعى والسياسى لمحيط الملكية، والنجاح فى التواصل معه. ويقصد بذلك أن الملكية البريطانية وتحديدا عهد الملكة إليزابيث الثانية ارتبط فى الذاكرة المتوارثة للبريطانيين بتصريحاتها وهى شابة فى الرابعة عشرة عندما توجهت للعمل كمتدربة فى فريق التمريض والميكانيكا بصفوف القوات البريطانية خلال عهد الحرب العالمية الثانية. ونجحت الملكية البريطانية من حينها وإلى حد بعيد فى تجديد رمزيتها ودورها فى توحيد الرأى العام فى السراء والضراء، كما هو الحال فى أحدث الأمثلة من زيارتها وبعض أعضاء الأسرة المالكة لضحايا اعتداء مانشستر الإرهابى ومنكوبى حريق برج جرينفل فى لندن قبل شهور قليلة. تجديد الرمزية وتطوير القدرة على التواصل يرتبط أيضا بخاصية المرونة، ويقصد بذلك القدرة على تحقيق التوازن بين تجسيد المؤسسة الملكية لكل ما هو أصيل وتقليدى والقدرة على تعديل بعض هذه التقاليد تمشيا مع متطلبات المحيط الاجتماعي. أبرز الأمثلة فى الحالة البريطانية ما كان عند خروج الملكة إليزابيث بخطاب للبريطانيين فى 1997 بعد أيام من مقتل الأميرة ديانا وأيام من تنامى الانتقادات لغياب الملكة عن مشهد الأحداث والتزامها بحذافير البروتوكوليات، فتركيز الملكة فى خطابها حينذاك على واجباتها كجدة وتذكيرهم بالحاجة لدعم الصغار الذين فقدوا والدتهم أكد استيعاب المؤسسة الملكية لمطلب الرأى العام تجاوز التحفظ التقليدى والانفتاح أكثر، وكان حدثا فارقا أسهم فى بدء تحديث صورة وممارسات المؤسسة الملكية وهو ما يتضح أكثر فأكثر مع أفراد الأسرة الأكثر شبابا. ثالثة الخصائص ترتبط بفكرة إخلاص المؤسسة الملكية فى التنازل عن جانب من سلطاتها لصالح هيئة الحكم وذلك فى حالة الملكيات الدستورية التى تملك ولا تحكم، فسواد هذا النمط من الملكيات تحديدا كان سببا رئيسيا فى استمرار الملكية إلى يومنا هذا، فهناك مثلا فصل واضح بين المؤسسة الملكية فى بريطانيا والعملية السياسية، فلم ترد واقعة تدخل أو تعليق على نتائج الدورات الانتخابية، وحتى عند تصويت البريطانيين لصالح الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبى فى يونيو 2016، استمر الالتزام بعدم التعليق، ولم يقع خرق لهذه القاعدة إلا نادرا، ونادرا جدا، كما جرى عام 2014 فى سياق استفتاء إقليم أسكتلندا على الانفصال عن المملكة المتحدة، فوقتها علقت الملكة متمنية أن يفكر الناخبون جيدا فى المستقبل. رابعة الخصائص الاستمرار، التزام المؤسسة الملكية بالحساسية الشديدة إزاء مدى استقرار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وفى ذلك ما يحفظ شعبيتها ويحيد المعارضة ضدها، فالتزام مستوى مرتفع من الإنفاق والترف فى أوقات الأزمات الاقتصادية نال نيلا كبيرا من شعبية المؤسسة الملكية فى إسبانيا عام 2013 مثلا. ويلاحظ أن من أهم البنود الجدلية مع بدء اتباع الحكومة المحافظة فى بريطانيا لسياسة التقشف الاقتصادي، مسألة نصيب المؤسسة الملكية من أموال دافعى الضرائب كأحد السهام التى توجه دوما إلى التاج البريطاني. وإدراكا لذلك، يلاحظ التوجه الجديد من جانب العائلة المالكة خاصة الأجيال الشابة بالتزام نمط حياتى معاصر ومقتصد إلى حد ما. خامسة الخصائص ترتبط بالشخصية الملكية المحورية وقدرتها على الاحتفاظ بمعدلات الدعم والتأييد ولعب دور التوحيد سواء على مستوى المؤسسة الملكية ذاتها أو لقطاعات شعبها، والحقيقة أن هذا العنصر تحديدا يعد من العناصر المقلقة لأنه هو ذاته قد يسهم فى إضعاف المؤسسة الملكية وتهديد استمرارها. يقابل هذا كله، صعوبة التصور بتمتع أى من ورثة عرشها بالمهارة ذاتها. وبالتالي، فإن المؤسسة الملكية فى النموذج الأشهر والأنجح قد تواجه تهديدا وجوديا وارتباكا فى الالتزام بباقى خصائص الاستمرار إذا ما اختفى شخص الملكة.