اليوم نقلب صفحة من صفحات هذا التاريخ الذى وإن كان قد كتب بدماء أبناء مصر، ولكنه أيضا قد بنى المجد ونشر النور فى العالم كله. ففى عام 286م قام شعب إحدى المدن بجنوب شرق فرنسا بثورة ضد الإمبراطورية الرومانية وكانت هذه المنطقة خاضعة لسلطان الإمبراطور مكسميانوس، وكانت بوادر ثورات أخرى فى باقى أوروبا، وخاصة فى سويسراوألمانيا وإيطاليا. فأرسل إلى دقلديانوس يطلب منه أن يرسل له جيشا يستطيع به أن يخمد الثورة، فأرسل دقلديانوس إليه كتيبة مصرية تسمى الكتيبة الطيبية نسبة إلى طيبة (الأقصر). وكان قوامها 6600 جندى من خيرة شباب صعيد مصر نشأوا فى وادى النيل وامتلأت نفوسهم من حضارة أجدادهم، وقد كانوا جميعا مسيحيين. وكانت هذه الكتيبة تحت قيادة القديس موريس، وأغلب الظن أن اسم موريس هو لقب وليس اسما اشتق من الكلمة القبطية «أمريس» ومعناها «قائد الجنوب أو قائد الصعيد» وكان محبوبا بين جنوده. وكانت الكتيبة كلها بجانب شجاعتها وبسالتها فى الحروب تحمل أخلاقا نابعة من حضارة بلادها ممزوجة بأخلاق المسيحية. وكانت فى تلك الفترة يسمح بعائلات الضباط والجنود أن يصاحبوا ذويهم حتى يستطيعوا أن يجدوا من يعمل الطعام ويخدم الجنود ويمرض الجرحى وقت الحرب. وكان من ضمن قواد الكتيبة القديس فيكتور الذى اصطحب معه ابنة عمه وخطيبته القديسة فيرينا التى كانت من قرية جراجوس التابعة لمركز قوص. وسافرت الكتيبة من مصر إلى أوروبا وقد أخذت أماكنها المتفرقة كل 550 جنديا فى مكان ما على طول خط الدفاع الممتد من جبال الألب شمالا على نهر الآر (سويسرا) ثم نهر الراين شمال ألمانيا إلى منطقة ميلانو بإيطاليا. وتقابل الإمبراطور مع القديس موريس وقد أعطى له الأوامر بأن يقدم كل جنود كتيبته القرابين للأوثان حتى يضمن ولاءهم جميعهم له ولآلهة روما، ولكن القديس أوضح له أنهم جنود مصريون مسيحيون وقد جاءوا فى مهمة جندية ولكنهم لا يستطيعوا أن يقدموا قرابين للأوثان وأنهم متمسكون بالمسيح. وغضب الإمبراطور وأمر بسجن قواد الكتيبة ظنا منه أن السجن سيغير فكرهم. فأخذوا يصلون طول الليل فى السجن وكتبوا رسالة للإمبراطور قالوا فيها: «أيها القيصر إننا جنودك وندين لك بالخدمة العسكرية ولكننا ندين أيضا لله بقلوبنا. وأن كان جنودنا لديهم أسلحة ولكننا لا ندافع بها عن أنفسنا لأننا نفضل أن نموت أبرياء من أن نعيش ملوثين ونحن على أتم الاستعداد أن نتحمل أى عقاب». وما أن وصلته هذه الرسالة حتى جمع الجنود والقواد الذين أخرجهم من السجن وقد أعطى أمرا بالقتل العشري، وهى طريقة كانت تصنع لإرهاب الجنود بأن يقتل كل رقم عشرة من صف الجنود. ولما وجد الجنود ثابتين فى إيمانهم قتل القديس موريس ورفاقه وأعطى أمرا بقتل كل الكتيبة الطيبية فى كل أماكنها المنتشرة فى أوروبا. وقد كان هذا على مرأى من الشعب الذى سمع بقصة الكتيبة التى أتت لتحميهم من الحرب فصاروا شهداء، وقد حدثت معجزات كثيرة من أجساد الشهداء جعلت الشعب الأوروبى يقبل على المسيحية. وكانت القديسة فيرينا تتابع أخبار الشهداء وكانت تخدم فى مواقع الاستشهاد والسجون. وبعدما استشهدت كل الكتيبة ذهبت للاعتكاف والصلاة فى كهف بمدينة سولوتورن فى شمال سويسرا. وكانت تقضى الليل كله تصلى وتقضى النهار فى حياكة الملابس. وكانت تأتى امرأة عجوز تأخذ منها ما تنتجه وتشترى لها احتياجاتها، وعرفت المرأة العجوز خبرة فيرينا بالتمريض فكان كلما مرض أحد من هذه القرية يأتى إليها، فكانت تهتم به وترعاه حتى يشفى من مرضه. وكانت قرى سويسرا غارقة فى الجهل وعدم النظافة وكان هذا سبب أمراضهم، فنزلت فى وسطهم وهى تحمل أدوات النظافة وأخذت تعلم هذه القرية والقرى الأخرى سلوكيات الحضارة والنظافة المصرية حتى تغير هذا المجتمع بل وانتشرت المسيحية على يديها أيضا. ولما ذاع صيتها صارت مكرمة جدا حتى عند والى المدينة لأنها قد صنعت معجزة لابن الوالى وصار مسيحيا. فانتقلت إلى مدينة أخرى هى زورزاخ على الحدود الألمانية السويسرية فخدمت هذه المنطقة أيضا وعلمتهم النظافة والحضارة. ولكنها أرادت أيضا أن تهرب من تمجيد الناس لها فذهبت وعاشت أحد عشر عاما فى مغارة بالجبل. فكان المرضى يأتون إليها وكانوا يشعرون ببركة كبيرة تخرج من يديها. واستمرت فى خدمتها وجهادها وصلواتها حتى انتقلت من هذه الأرض. فأخذوا جسدها وبنوا عليه كنيسة كبيرة فى زورزاخ يتوافد عليها إلى الآن جموع كثيرة لنوال البركة. وقد صارت الكتيبة كلها شفيعة لأوروبا، فتوجد مقاطعة بالقطاع الفرنسى بسويسرا على اسم سان موريس، ولايزال تاريخ استشهاده عطلة رسمية فى أماكن كثيرة فى أوروبا. والقديس فيكتور ورفقاؤه شفعاء مدينة جنيف، وباقى الشهداء يتشفعون بهم فى أماكن استشهادهم فى ألمانياوسويسرا. أما القديسة فيرينا فقد أقيم لها تمثال على الجسر الفاصل بين سويسراوألمانيا على نهر الراين وهى تحمل وعاء به ماء فى يد وفى اليد الأخرى تحمل المشط الفرعونى ذا الجانبين. أيها القارئ العزيز ألا تشعر بفخر وأنت تقرأ هذا التاريخ، وألا نشعر جميعا بالخزى لعدم نشر هذا التاريخ، فحتى يتعلم أبناؤنا الوطنية يجب أن نخبرهم عن قيمة الوطن، بتاريخه عبر العصور، بحضارته التى نشرت النور. فكل بقعة فى مصر تحكى تاريخا عظيما عاش فيه أجدادنا فكانوا عظماء حين تكلموا، وكانوا عظماء أيضا حين صمتوا. كانوا عظماء حين بنوا وشيدوا، وكانوا عظماء أيضا حين وجدوا من يهدم، فلم ييأسوا بل أعادوا البناء مرة أخري، وستظل مصر عبر التاريخ هى منارة المستنيرين. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس